50 عامًا على رحيل كوكب الشرق.. كل شىء إلى أطلال.. عدا صوتها وعشق الجمهور لها
«مصر ولادة للعباقرة» نعم، مصر تنجب مبدعين وعباقرة، مقولة تثبت صحتها جيلاً وراء جيل. فى عصرنا الحديث، إن كنا نتباهى ونفتخر بمصريين سطع نجمهم فى سماء العالمين فى مختلف مجالات الحياة مثل أحمد زويل، ومجدى يعقوب، ونجيب محفوظ، وفاروق الباز… وغيرهم، فإننا كمصريين يحق لنا أن نتباهى بأحد أبناء جلدتنا جمع فى شخصه بين العلم والفكر والأدب والشعر والترجمة، ورغم مرور خمسين عامًا على رحيلها إلا أن صوتها لا يزال حيا وفاعلا فى أفئدة ووجدان المصريين والعرب كافة، وهو ما يؤكد أن كل شىء بات إلى أطلال، عدا صوتها، وعشق الجمهور لها.. إنها سيدة الغناء العربى «أم كلثوم»- وليس أحد غيرها- الصوت الذى أسر القلوب وأطرب سامعيه فى الشرق والغرب، كما لم يعجب بها من قبل، أغانيها جسر وحد العرب من المحيط إلى الخليج فصوتها أسقط الحواجز وأذاب الحدود، واتحدت الآذان داخل عشرة ملايين كيلو مترات مربعة، ليصبح الخميس الأول من كل شهر موعدا لإمتاع محبيها، لتتعالى صيحاتهم وهتافاتهم من لوعة الحب: «عظمة على عظمة ياست».
إنه الهوى فى أغانيها بلا مواعيد، وعندما يأتى فإنه غلاب، هجره مرار وعذاب يومه بسنة كل شىء فيه بقضاء. ومن الرائع أيضا أن أم كلثوم كانت حاضرة رغم غيابها منذ نصف قرن فى معرض القاهرة الدولى للكتاب فى دورته الأحدث الـ ٥٦.
شهد الشرق الأوسط ثورات وتحولات ولكن شعبية أم كلثوم بقيت كما هى.. فهى ملكة الغناء العربى بلا منازع.. استحقت عن جدارة واستحقاق كل ما حصلت عليه من مجد وشهرة وزهو، موهبتها وحدها هى من جعلتها سيدة الغناء العربى وكوكب الشرق، وثومة والست!.
وهناك آلاف المقالات والدراسات والكتب حاولت أن تفسر وتحلل الأسطورة «أم كلثوم».. هناك كُتّاب د.نعمات أحمد فؤاد «عصر من الفن» ومحمود عوض «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» ورجاء النقاش «لغرام أم كلثوم» ود.رتيبة الحفنى «أم كلثوم معجزة الغناء العربى»، ومحمد شعير «مذكرات الآنسة أم كلثوم» وكريم جمال «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» وجهاد فاضل «أم كلثوم نغم مصر الجميل» وجورج إبراهيم الخورى «حكايتى مع أم كلثوم» ود.أحمد يوسف على «أم كلثوم الغناء والشعر» وسعيد الشحات «أم كلثوم وحكام مصر» ومحمد محمود عبدالعال «قيثارة السماء أم كلثوم» وأيمن الحكيم «قتلة أم كلثوم» وفكتور سحاب «موسوعة أم كلثوم سيرة حياتها والأغانى» وكمال النجمى «تراث الغناء العربى» وحنفى المحلاوى «عبدالناصر وأم كلثوم» وغيرها من الكتب.. من هذه الكتب نتناول على وجه الخصوص مسيرتها كسفيرة ومناضلة، محاربة، سياسية، دبلوماسية.
كانت أم كلثوم تعبيرًا عن حالة جماعية يعيشها الوطن العربى.. وصفها سعيد الشحات فى كتابه «أم كلثوم وحكام مصر» فحين كان جمال عبد الناصر يلقى خطابًا سياسيًا، تتوحد كل موجات الإذاعة فى الوطن العربى، منضبطة على ما سيقوله لتستمع الجماهير إلى من امتلك ناصية قلوبهم، وامتلك قدرة سحرية على صياغة أفكارهم وسلوكياتهم. أما أم كلثوم، وكما قالت مجلة «لايف» الأمريكية عام ١٩٦٢ فى الساعة العاشرة ليلة الخميس الأول من كل شهر، يحدث شىء غريب فى الشرق الأوسط.. يهدأ الضجيج فى شوارع القاهرة فجأة، وفى الدار البيضاء التى تبعد ٢٥٠٠ م ميل إلى الغرب، يكف الشيوخ عن لعب الطاولة فى المقاهى، وفى بغداد التى تبعد ٨٠٠ ميل إلى الشرق، يحدث نفس الشىء. الكل ينتظرون برنامجا معينًا تذيعه إذاعة القاهرة، مدة هذا البرنامج خمس ساعات، ويذاع ثمانى مرات فى السنة، ونجمته مطربة اسمها أم كلثوم.
إن مكانة أم كلثوم لم تتراجع ألبتة فى العهود السياسية التى تعاقبت عليها، وأوجدت لها مكانة متميزة استنادًا لقاعدة جماهيرية تتسع على نحو ما زال يثير الدهشة.. يتأمل الكاتب كريم جمال الدين فى كتابه «أم كلثوم وسنوات المجهود الحربى» فى كيفية تحويل أم كلثوم إرثها الغنائى الطويل خلال سنوات الهزيمة إلى سلاح.. فعقب الهزيمة مباشرة تبنت أم كلثوم خطوتها، وبدأتها فعليًا فى ٢٠ يونيو ١٩٦٧، عندما حولت شيكًا بمبلغ ٢٠ ألف جنيه استرلينى إلى خزانة الدولة المصرية، كانت قد تلقته من دولة الكويت، مقابل إذاعة بعض تسجيلاتها الغنائية هناك. ولم يعلن عن ذلك التبرع إلا بعدما سرب أحد العاملين فى وزارة المالية، الخبر إلى الصحافة المصرية، فكتب تفاصيله الكاتب موسى صبرى فى مقال قصير فى صحيفة «الأخبار» فى ٢٧ يونيو ١٩٦٧ تحت عنوان: «خذوا القدوة من أم كلثوم». وفيه دعا الفنانين المصريين إلى الاقتداء بمواقف أم كلثوم الوطنية. مجهود دام ست سنوات كاملة، لم تتخلف فيها أم كلثوم يومًا عن أن تكون عونا لأمتها وسندًا فى تلك المحنة القاسية. كما كانت حفلاتها عاملا فى تحسين علاقة مصر بالعديد من الدول التى كانت طرفًا فى نزاعات معها، لا سيما تونس والمغرب، وإزالة أسباب الفرقة وترميم فكرة القومية العربية وتجديدها، بعد ما أصابها من تصدعات أنتجتها الهزيمة العسكرية.
أم كلثوم لم تنتظر الدعوة من أحد لكى تبدأ نشاطًا وطنيا عامًا بعد نكسة ١٩٦٧، كما ذكر محمود عوض فى كتابه «أم كلثوم التى لا يعرفها أحد» أصبح هدفها الأكبر هو تعبئة العواطف بالتضحية، وتعبئة الخزائن بالنقود، وتعبئة البنادق بالرصاص. غنت لصالح تبرعات إزالة آثار العدوان.. لصالح تعمير مدن القناة، أو لأى عمل يخفف عن بلدنا آلام الهزيمة ويساهم فى جهود النصر. تجمع كل قرش لكى تعطيه لبلدها حتى بلغ ٢ مليون جنيه التى جمعتها أم كلثوم خلال سنتين تبرعات اختيارية جمعتها خلال سنتين خلال عشرين حفلة دارت حول الكرة الأرضية مرتين أن مصر أحبت أم كلثوم بغير حدود، فأحبتها أم كلثوم بغير حدود عرفان بالجميل، تكافح بصوتها لأن بلدها يكافح بسلاحه.
عندما أعلن جمال عبد الناصر نبأ تنحيه عن الحكم، وفى تلك الليلة قالت أم كلثوم لصالح جودت إن الأمل الباقى، هو أن يبقى جمال عبد الناصر فى مكانه وبعد منتصف الليل اتصل بها صالح جودت وتلا عليها أنشودة تحمل نداء إلى جمال مطلعها: «قم واسمعها من أعماقى/ فأنا الشعب/ ابق فأنت السد الواقى/ لمنى الشعب/ ابق فأنت الأمل الباقى/ لغد الشعب/ ابق فأنت حبيب الشعب»، وأيقظت رياض السنباطى وأملت عليه بالتليفون أيضا.. ولم ينم السنباطى ليلته، وفى الصباح كان قد انتهى من تلحينها، وبعد يوم واحد سجلتها وقدمتها الإذاعة لجماهير ٩ و١٠ يونيو التى خرجت عن بكرة أبيها وتحت وابل من قنابل العدو تطالب ببقاء جمال عبد الناصر.
الباحث فى مسيرتها يجد أن أم كثوم تحمل بذور الوطنية منذ فترة طويلة، ففى شهر فبراير ١٩٤٩ دخلت إلى المسرح تغنى، ولكنها فوجئت بضابط يستوقفها ليقدم إليها خطابا مغلقا. ما هذا الخطاب؟ ماذا بداخله؟ ورقة؟ آه.. ما هو المكتوب فى الورقة؟ مش معقول. إنه رجاء يقدمه إليها ضباط وجنود الفرقة المصرية المسلحة التى يحاصرها الإسرائيليون فى الفالوجة «نريد أن نسمع منك فى حفل الليلة المذاع بالراديو أغنية غلبت أصالح فى روحى» قطعة غنائية تحولت إلى مهمة وطنية. ليلتها قطعت أم كلثوم وصلتها الأولى لتقدم الأغنية المطلوبة كما لم تغنها من قبل وفرح المحاصرون وشعروا فى هذا الوقت أن فى مصر من يستمع اليهم. وبعد عودة الأبطال إلى القاهرة، دعتهم أم كلثوم جميعا إلى حفل شاى فى بيتها، واستقبلتهم بدموع المصرية الفخورة بأبناء مصر وجلست بينهم.. وأقامت لهم فى حديقة البيت محطة إذاعة صغيرة تذيع عليهم ما يطلبون من أغنيات، وكان من بينهم الضابط السيد طه الذى اشتهر باسم «الضبع الأسود» الذى قدم لها الضباط والجنود واحدًا واحدًا وكان من بينهم الضابط الشاب جمال عبد الناصر.. وكان هذا هو أول لقاء بها بالبطل قبل أن يلعب دوره التاريخى فى حياة مصر بأربع سنوات.
وعندما دخلت مصر مرحلة جديدة هى مرحلة ثورة ٢٣ يوليو، ارتفعت فيها أم كلثوم إلى ظاهرة قومية للأمة العربية، يرى كمال النجمى أن أم كلثوم كانت تبحث فى كلمات أغانيها عما يطابق الزمن وفهم طبيعة المراحل الاجتماعية والسياسية، وعندما قامت ثورة ٢٣ يوليو وسألـت أحمد رامى أن يعجل بنظم تحية لتقدمها للثورة فنظم لها أغنية مطلعها: مصر التى فى خاطرى وفى فمى/ أحبها من كل روحى ودمى/ بنى الحمى والوطن/ من منكم يحبها مثلى أنا.
وفى ١٩٥٦ كانت أم كلثوم واحدة من كتيبة الأبطال الذين احتاجهم عبد الناصر، وكان انفعالها بالعدوان الثلاثى ولد نشيدًا وطنيًا رائعًا هو «والله زمان يا سلاحى» أشعار صلاح جاهين وألحان كمال الطويل، واتخذته مصر سلاما وطنيا حتى توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام ١٩٧٨. يظل هذا النشيد علامة فارقة فى تاريخ الغناء الوطنى عامة، وأم كلثوم خاصة، بالإضافة إلى أن قصة ولادته، والظروف التى مر بها علامة مضيئة فى كيفية التعاطى الشخصى من أم كلثوم لقضايا الوطن. كانت غير مبالية بالقنابل التى تتساقط على محطات إرسال الإذاعة، والأنوار مطفأة داخل استديوهات الإذاعة نفسها، رفضت التسجيل فى ستديو مصر، ورأت بعفويتها ماذا سيكون حكم التاريخ لو فعلت ذلك، فقالت: «أموت فى الإذاعة احسن ما يقول حد: إن أم كلثوم هربت». دخلت الاستديو لتحفظ أغانيها للمعركة وتسجلها على ضوء الشموع.
وبدأت ولادة «إذاعة أم كلثوم» بعد أن انتهت الحرب وحمل العدوان عصاه ورحل. كانت آلة الإعلام المصرى أثناء الحرب تمارس دورها لمقاومة مفاهيم الغرب الخاطئة بتصوير عبد الناصر على أنه هتلر جديد، وكذلك إضعاف الروح المعنوية لبقايا الاستعمار فى مصر، واستخدم الإعلام فى معركته موجة إذاعية عرفت فيما بعد بإذاعة أم كلثوم، وتكشف قصتها التى أحيطت بسرية تامة، فقد أسند أمر توظيف هذه الإذاعة إلى مدير مكتب جمال عبد الناصر لشؤون الصحافة والإعلام عبد القادر حاتم واستثمارها كأداة إعلامية سرية ضاغطة على الإنجليز، وبدأ بثها دون أن يعلم أحد بمكانها، وبعد جلاء الإنجليز وفشل العدوان الثلاثى، تدارس أمر هذه الإذاعة بعد أن أدت مهمتها بنجاح، وانتهى الوضع إلى تخصيصها لأم كلثوم على أن يتم بث أغانيها عليها لمدة خمس ساعات يوميًا تبدأ من الساعة الخامسة حتى العاشرة، مما يؤكد مدى تقدير عبد الناصر لأم كلثوم.
ختامًا كما ذكرت مجلة تايم الأمريكية: «فى الشرق الأوسط هناك شيئان لا يتغيران ولا ينال منهما الزمن.. أم كلثوم والهرم».