50 سنة على رحيل عميد الأدب العربى.. صاحب رؤية أثرى العالم

50 سنة على رحيل عميد الأدب العربى.. صاحب رؤية أثرى العالم


تمنى لقاء ربه، بعد أن تحررت الأرض من نجاسة العدو، وتشاء الأقدار أن يتزامن فى 28 أكتوبر ذكرى مرور خمسين عامًا على رحيل الدكتور طه حسين، مع الانتصار الذى حققته مصر فى السادس من أكتوبر 1973، نستعيد سيرة حياة «العميد» بزاوية مختلفة: أهمها كتاب «ما بعد الأيام» للدكتور محمد حسن الزيات، وزير خارجية مصر فى وزارة الحرب التى تشكلت قبل حرب 6 أكتوبر 1973، وزوج أبنته أمينة، ومقتطفات من كتاب لزوجته سوزان «معك»، وكتاب «طه حسين من الأزهر إلى السوربون»، تأليف وترجمة عبد الرشيد الصادق محمودى.

استغرقت «سوزان بريسو»، زوجة العميد، عامين فى كتابة هذه المذكرات وهى تبلغ الثمانين من العمر، مستخدِمة لغتها الفرنسية التى تتقنها، وأرادت له أن يُترجم إلى العربية ليصل إلى قراء وقارئات العميد فى شتى أنحاء العالم العربى، وهو ما تحققَ على يد المترجم السورى «بدر الدين عرودكى» عام 1977، أصدرت دار المعارف ترجمة كتاب «معك»، ثم نشره المركز القومى للترجمة فى القاهرة عام 2008، وصدرت طبعته الفرنسية للمرة الأولى عام 2011، أى بعد سبعة وثلاثين عاما على صدور الطبعة العربية الأولى.

يبدأ كتاب «معك» باستعادة سوزان طه حسين لمقولة عميد الأدب العربى: إننا لا نحيا لنكون سعداء، عندما قلت لى هذه الكلمات فى عام 1934 أصابنى الذهول، لكننى أدرك الآن ماذا كنت تعنى، وأعرف أنه عندما يكون شأن المرء شأن طه، فإنه لا يعيش ليكون سعيدًا، وإنما لأداء ما طُلب منه. وتتابع زوجة العميد: لقد كنا على حافة اليأس، ورحت أفكر: لا إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء، لكنى كنت على خطأ، فلقد منحت الفرح، وبذلت ما فى نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل.

عمها القس أحب طه، ووافق على زوجهما.. تحكى «سوزان» عن لحظات لقائها الأولى بطه حسين، فتقول: أول مرة التقينا فيها كانت فى 12 مايو 1915، فى مونبيلييه، ومنذ زواجنا كنا نحتفظ لهذا اليوم بوضع خاص، لم يكن ثمة شىء فى ذلك اليوم ينبئنى بأن مصيرى كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمى التى كانت بصحبتى أن تتصور أمرًا مماثلًا، وكنت على شىء من الحيرة، إذ لم يسبق لى فى حياتى أن كلمت أعمى. ويمضى زمن وأقول لأهلى إننى أريد الزواج من هذا الشاب، وكان ما كنت أنتظره من رد فعل كيف؟ من أجنبى؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟.

لا شك أنك جننت تماما، وكان لابد من النضال، وجاءنى أكبر عون من عم لى، هذا العم قس وتعرف بطه وقال لى: «بوسعك أن تنفيذى ما عزمت عليه.. لا تخافى بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إنه سيتجاوزك باستمرار». وتواصل حديثها: لم نكن أغنياء، لكن طه وجد وسيلة يتمكن بها من إهدائى هدية بمناسبة عيد ميلادى، فقد اشترى من شارع بونابرت نسخة من لوحة «عذراء لندن» لبوتيشللى، هذه اللوحة بقيت دوماً فى غرفتى. مشاهد شديدة الأهمية من تاريخ مصر السياسى والاجتماعى فى مصر من القرن الماضى.

«قصة لقب باشا».. تتذكر «سوزان» أحداث عام 1951 مؤكدة: قال الملك بابتسامة ساحرة لطه حسين على إثر خطابه فى افتتاح معهد الصحراء: «أشكرك يا باشا». هكذا مُنح طه لقب الباشا. وذلك اللقب الذى لم يفكر فيه إطلاقاً.. هذا التكريم لم يحرك فيه ساكناً فلم يكن من عبدة الألقاب.

طوال حياته ارتبط طه حسين بعلاقات وصداقات مع كبار المبدعين حول العالم، مثل أندريه جيد، وطاغور، وجان كوكتو، وآراجون، وهيلين كيلر، وماسينيون.. ذكرت«سوزان» الكثير من هذه اللقاءات والشخصيات، ومنها لقاؤه مع «هيلين كيلر» التى كانت تزور القاهرة، فى مايو 1952، وطلبت أن تلتقى بـ«طه حسين». كانت قد قالت عن هذا اللقاء: «سيكون لقائى مع طه حسين أجمل يوم فى حياتى»، وكنَّا نشعر بانفعالٍ شديدٍ حين ذهبنا، طه ومؤنس وأنا إلى فندق سميراميس. ونتساءل كيف سيدور الحديث مع امرأة لم تكن عمياء فقط وإنما صماء بكماء أيضًا؟.

والحق أن ذلك لم يكن صعبًا على نحو ما انتظرنا، أولاً لأن هذه المرأة كانت بشوشة بقدر ما كانت لطيفة، كما كانت ذكية إلى حد خارق، ثم لأن كان بالقرب منها سكرتيرة مدهشة كانت تسمى فيما أذكر مس طومسون. لقد كانت تقوم بكل ما يمكن، فإن حماسته بها لم تعرف لها حدودًا، ونظم على الفور قصيدةً أهداها إليها وسرَّها بها. أما نحن فلم نكن أقل منه تأثرًا بذلك. من الذكريات الجميلة تقول «سوزان» إنها كانت مع طه تقيم فى فندق بالاس بإيطاليا. وقمنا بعقد صلات جميلة مع عدد من نزلاء الفندق، وذات يوم اندفع واحد منهم فى الصالة ملوحاً بمجلة إيطالية وقال: انظروا، انظروا، أليس هذا عظيماً؟، أى مفاجأة، وكان يشير إلى نقد كتاب (دونالد روبينسون) أهم مئة شخصية فى العالم.. لم نكن نعرف إطلاقاً أن روبينسون كان يفكر فى هذا الكتاب. وكان طه حسين من العشرة الأوائل.

تزامن وفاة عميد الأدب العربى مع انتصار أكتوبر، تمنى لقاء ربه، وقد حققت مصر النصر فى حرب 37 وتحررت الأرض من العدو، يروى الدكتور محمد حسن الزيات (14 فبراير 1915 – 25 فبراير 1993) هو وزير الخارجية فى وزارة الحرب التى تشكلت قبل حرب أكتوبر 1973.. كتابه «ما بعد الأيام» الصادر عن دار الهلال بعد رحيل عميد الأدب العربى ويتضمن معلومات عن طه حسين لا يعرفها أحد سوى الزيات بصفته زوج ابنة طه حسين. ويتذكر الدكتور «الزيات» طه حسين وحديثه عن الحرب قائلاً: «قد ذهبت أودعه فى غرفة نومه قبل سفره إلى إيطاليا وأعتذر عن عدم مصاحبته لوداعه بالإسكندرية كعادة كل عام لانشغالى، قال لى ماذا يشغلك؟ وماذا يفعل وزير الخارجية فى القاهرة؟ ماذا يفعل كل المسؤولين فى القاهرة وفى العالم العربى، وقد مضى على احتلال أراضينا سبعة أعوام؟.

قلت: إن القاهرة تردد الشعر الذى تعلمته أنا منك وهو «ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم».. فسكت لحظة، وارتفعت هامته، وسأل فى جد شديد: وإذن لا نسافر هذا الصيف؟ قلت: بل تسافر فى حفظ الله، وتعود مستريح الجسم مطمئن النفس والضمير. وساد صمت قطعه بالسؤال عن عدد الجامعيين الذين تم تجنيدهم فى القوات المصرية المسلحة. لأنه كان يرى أن العلم هو أساس النهضة العسكرية أيضا. وعاد لمصر فى 3 أكتوبر عام 1973، وفى السادس من أكتوبر 1973 عرف الدكتور طه حسين أن جيش مصر قد تحدى ما جمع العدو له من قوة لترهبه وتقهره وتضطره إلى ذل الاستسلام، وأن جيش سوريا يقوم بنفس التحدى. ولست أشك فى أن طه حسين قد تخيل الجيش المناضل وهو يضم الشباب المتعلم الذى سبق وأن سأل عن عدده، تخيله وهو يدرك لماذا يحارب، وبماذا يحارب، ولمن يحارب. لست أشك فى أنه تخيل من بينهم شباب جامعته الأولى الأزهر، وشباب جامعته الثانية جامعة القاهرة، ثم شباب الجامعات التى أنشأها هو جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس وجامعة أسيوط، تخيل شباب هذه الجامعات يحاربون إلى جانب إخوانهم الذين لم يحصلوا عليه من التعليم، ولكنهم يساوونهم فى الإخلاص والعزيمة والتصميم.

ويقول الدكتور الزيات: اختار الله طه حسين إلى جواره فى 28 من أكتوبر 1973، ولنا فى ذلك الوقت شباب محارب فى الصحراء، سمعوا نعيه وهو لايزالون يرابطون فى خنادق سيناء فكتب واحد منهم وهو المقاتل «عبد الصبور منير» أبياتاً «إلى طه حسين من سيناء» ويقول فيها: «بين يدى والصدر/ تقول قطعة السلاح / إن الذى عملها الكفاح/ يستشهد اليوم هناك». وهكذا يرى المقاتل عبد الصبور منير أن العالم الضرير الذى كان قد لزم بيته قبل حرب أكتوبر بسنوات، هو الذى علم الكفاح لقطعة السلاح، كما يرى أنه هو الذى كان جديراً بأن يبارك ما قامت به أيدى المحاربين من حمل للسلاح، وما كانت تضمره قلوبهم من العمل بعد النصر لإعادة بناء البلاد.

مسيرة «العميد» من كتاب القرية إلى السوربون باهرة فى حد ذاتها، فهى تدل على قدرته فى تلك المرحلة على أن يعبر- ولو إلى حد ما – ما وصفه أندريه جيد وصفاً سديداً بـ«الهوة الضخمة التى تبدو مستعصية على العبور فيها بين بدايات طه حسين ككائن منبوذ وبين إنجازه المجيد».. فى كتاب «طه حسين من الأزهر إلى السوربون»، الصادر عن المركز القومى للترجمة.. الذى يُعد فى الأصل رسالة دكتوراة عبد الرشيد الصادق محمودى فى دراسته جامعة مانشستر 1995 تقصى فيها مسيرة طه التعليمية من الكتاب إلى السوربون وتركيزه على فترات التكوين فى حياة طه حسين وعن سيرته الذاتية رواها كما جاءت فى كتاب «الأيام».. ولد طه فى سنة 1889 فى عزبة الكيلو بالقرب من مغاغة محافظة المنيا بمصر الوسطى، لأسرة متواضعة الحال كثيرة الأبناء، وفقد بصره فى سن مبكر، ذهب إلى الكتاب وحفظ القرآن فى سن التاسعة، أرسله أباه وهو فى سن الثالثة عشر من عمره إلى القاهرة ليطلب العلم فى الأزهر، وكان أقصى ما يتمناه والده له أن يحصل على شهادة العالمية التى تؤهله للتدريس فى الجامعة الجليلة، غير أن طه لم يحقق آمال أبيه، وذلك أنه فقد اهتمامه بالعلوم الأزهرية وأثار من المتاعب ما عرضه لسخط سلطات الأزهر. وفى سنة 1908 التحق بالجامعة المصرية أو الجامعة الأهلية.. وتفرغ بعد فترة تفرغاً كاملاً لهذه الدراسة الجديدة. وفى سنة 1912 (أسقط) فى امتحان العالمية، بيد أنه بعد ذلك بعامين حصل على أول دكتوراه تمنحها الجامعة الفتية، وذلك عن الرسالة التى أعدها عن أبى العلاء المعرى، وفاز بمنحة للدراسة فى فرنسا. وفى سنة 1917 حصل من السوربون على درجة الليسانس فى الآداب، وبعد ذلك بعام منحته السوربون دكتوراة الجامعة عن الرسالة التى أعدها عن عن فلسفة ابن خلدون الاجتماعية. وفى سنة 1919 اختتم دراسته فى الجامعة الباريسية بدبلوم الدراسات العالية فى التاريخ القديم.




Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *