مهرجان البندقية السينمائي: تمثيلات الدين والالحاد في “كلمات مع الالهة”
- صفاء الصالح
- بي بي سي – البندقية
يتصدى فيلم “كلمات مع الآلهة” لمهمة تكاد تكون مستحيلة، أعني تقديم فيلم (انثولوجي) يجمع قضايا أساسية ومواقف ونظرات من كل الديانات الأنسانية الكبرى في 135 دقيقة هي مجمل زمن الفيلم.
وهي مهمة سقفها الابتسار ما دامت تسعى لتناول ديانات شغلت الجزء الأكبر من تاريخ البشرية وبحثها الروحي وتأملها في الوجود والمصير فضلا عن طقوسها وتقاليدها.
إن الحلول الشكلية التي أقدم عليها صاحب المشروع، الروائي والسينارست والمخرج (احيانا) المكسيكي غييرمو أرياغا (روائي اشتهر بكتابة عدد من السيناريوهات الناجحة ومن بينها الأفلام الثلاثة الأولى لمواطنه اليخاندرو غونزاليس اينارتو،أموروس بيروس و 21 غرام وبابل. وحصل على جائزة السيناريو في كان عام 2005) لم تنقذ الفيلم من هذه الحقيقة المنطقية التي حكمت مصير مشروعه.
كما لم ينفع حشد تسعة مخرجين لهم منجزهم وسمعتهم الفنية الجيدة في إنقاذ الفيلم، لكنه تركنا أمام شذرات التمعت هنا أو هناك في مساهمة هذا المخرج أو ذاك وسط نسيج من الرؤى المتنافضة والمتباينة وان غلب على الكثير منها الافتقار إلى العمق والتعكز على السخرية المباشرة والكوميديا في البعض منها أو التأثير العاطفي المباشر الذي يصل حد الميلودراما في البعض الآخر.
وتعكز الفيلم على اسم الروائي البيروفي الحاصل على جائزة نوبل للآداب ماريو فارغاس يوسا، الذي نسبت إليه عملية اختيار تسلل الأفلام القصيرة التي تكون منها الفيلم.
من الولادة الى الموت
اختار يوسا أن لا يعتمد تسلسلا تاريخيا للأديان بل تسلسلا منطقيا موضوعيا (من الثيمات التي تعالجها الأفلام) يمكن اختصاره بحياة الإنسان من الولادة الى الموت، فنرى الفيلم يفتتح بقطعة (فيلم قصير)عن الولادة ويختتم بقطعة عن موت الآلهة، إذا استعرنا لغة الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه.
في الفيلم الأول أو القطعة الأولى، “آلهة حقيقية”، التي اخرجها المخرج واريك ثورنتون (وهو مصور تحول إلى الاخراج، من أفلامه : شمشمون ودليله 2009 والياقوت الأزرق 2012 ) يخصصها المخرج لديانة السكان الأصليين في استراليا.
ونتابع فتاة حامل من السكان الأصليين (الممثلة ميراندا تابسيل) تنتبذ مكانا قصيا في منطقة قاحلة لتلد وحيدة هناك، ونتابع بتفاصيل صادمة مخاضها العسير ولحظات ولادتها وحيدة في تلك المنطقة النائية.
ويستند ذلك إلى تفسير ديني في الديانة الاحيائية للسكان الاصليين يشير إلى أن المولود الجديد ليس نتاج أمه التي تلده حسب، بل النجوم وقوى الطبيعة كلها يجب أن تساهم في خلقه وولادته، فهو ابنها مجتمعة، من هنا اختيار الام لأن تكون وحدها مع الطبيعة،فهي تؤمن أنها بحمايتها وأنها من يرعى طفلها.
ورغم البشاعة التي يجدها البعض في عرض مشهد ولادة أم منفردة في منطقة مجدبة واظهار العملية بتفصيل ممل، بما فيها خروج الطفل مغطى بالدم وقطع الام لحبل المشيمة بأسنانها، إلا أن المخرج استخدم خبرته كمصور في تقديم لقطات رائعة كتلك اللقطات العامة للطبيعة أو لقطات قريبة لبطلته في محنتها.
ولعل إحدى تلك اللقطات القريبة التي تخلد في البال صورة عين البطلة وقد توقفت كليا عن الرمش، محدقة في الفراغ وتأتي ذبابة لتقف على البؤبؤ دون أن ترمش وكانها عين ميت.
وتنقلنا صرخة الولادة إلى مصير طفل رضيع في الفيلم الثاني للمخرج الارجنتيني المعروف هيكتور بابينكو(صاحب فيلم قبلة المرأة العنكبوت 1985).
حمل الفيلم الثاني عنوان “الرجل الذي سرق بطة” وخصص لتناول ديانة الاومباندا البرازيلية. وهي ديانة أفروبرازيلية، وتمثل خليطا من الكاثوليكية والديانات الإحيائية الافريقية، تأخذ من الكاثوليكية فكرة الإله الواحد لكنها في الوقت نفسه تقدس قوى الطبيعة وتعتبرها أذرع الرب وكل واحد منها يؤدي وظيفة محددة، وقد انتشرت هذه الديانة في جنوب البرازيل وامتدت إلى الارجنتين واوروغواي.
نتابع في فيلم بابينكو معاناة رجل قاس تسبب سكره الدائم وعنفه ضد زوجته في هروبها منه، فيغرق في السكر أكثر ويترك طفله الرضيع يموت، ليصبح مجنونا هائما على وجهه في الشوارع.
و يقف أمام مقبرة الأطفال التي دفن فيه طفله، باحثا عن التطهر والخلاص والسلام، فيعوض حاجته لطفله ببطة بيضاء يسرقها ويحملها في حضنه أنى ذهب، حتى تقوده قدماه إلى طقس رقص جماعي ديني، أشبه بالرقص الصوفي، فيظل يدور وسط الراقصين تاركا البطة ومندمجا في طقس التطهر الجماعي هذا.
صور الرب
في الجزء المخصص للهندوسية، الذي حمل عنوان “غرفة الرب”، تواصل المخرجة الهندية ميرا ناير(سلام بومباي، مونسون ويدنغ، وكاماسوترا،أصولي متردد) نهجهها القائم على البحث في أثر الحياة المعاصرة على التقاليد الهندية الغنية، والاصطدام بين قيم الحداثة والتقاليد المثولوجية والاجتماعية المتجذرة في المجتمع الهندي.
وتنجح ناير في صنع كوميديا خفيفة مستندة إلى هذا التصادم بين الاعتقاد الديني ومتطلبات الحياة المعاصرة، فنحن نتابع معها زيارة عائلة هندوسية كبيرة لبيتها الجديد المكون من أكثر من طابق ضمن عمارة كبيرة تحت البناء.
فيحدث خلاف داخل العائلة يفجره إصرار الأم على تخصيص أفضل موقع لغرفة العبادة أو غرفة الرب، بينما يتنافس الآخرون فيما بينهم للحصول على الغرفة الأفضل.
وتتابع ناير المشهد من منظور طفل في العائلة يتخيل الإله الهندوسي الذي يشاهد تمثيلاته في الاحتفالات الدينية التي تجري في الشوارع.
وكلما احتدم النقاش نراه يرى الرب في صورة غريبة ، كأن يكون في صورة رأس الفيل المعتادة في التقليد الهندوسي، لكنه يراه في صور أخرى غريبة وبمفردات معاصرة، كأن نرى رأس الإله محاطا بالهواتف النقالة. ومع اشتداد النقاش يخرج الطفل متتبعا صورة إلهه خارج العمارة وباتجاه البحر الذي يختفي فيه.
وفي السياق الكوميدي ذاته يمصي كل من المخرج الاسباني اليكس دي لا إيغلسيا(السيرك الأخير، جرائم أوكسفورد)، في تناول الكاثوليكية في فيلمه “الاعتراف”، والمخرج الكردي بهمن قبادي (مولود في إيران،ويعمل في اقليم كردستان العراق، الذي شارك الفيلم باسمه، ومن أفلامه : نصف قمر،السلاحف يمكنها الطيران، وموسم وحيد القرن)، في تناوله للإسلام في فيلمه “كابوكي” أو “ابحث في الاعالي احيانا”.
ويصل دي لا إيغلسيا بالسخرية إلى أقصاها في تقديمة مفارقة أخذ سائق سيارة أجرة متدين بطريقة شعبية، لقاتل هارب ومطارد من عصابة أخرى، ضانا أنه قس بسبب ملابسه السوداء، ويأخذه ليصلي على والده المحتضر، الذي يظهر أنه ملحد، وتصل المفارقات إلى ذروتها مع وصول العصابة التي تطارده ووفاة القاتل الجريح بين يدي الأب المحتضر الذي يباركه بطريقته الخاصة.
أما قبادي فيلجأ في خلق مفارقته إلى مشكلة فقهية في الاسلام، في حالة نادرة جدا، وهي توأم ملتصق من الرأس وحيرة رجل الدين في البلدة الكردية الصغيرة في ايجاد حل شرعي لمشكلة التوأم فأحدهما متدين والآخر شهواني، يريد أن يخوض تجربة جنسية مع امرأة، ويلجأ المتدين إلى امام المسجد بحثا عن مخرج شرعي لأزمته.
ويقدم قبادي سخرية لاذعة من التقاليد الدينية ومايراه عجزها عن حل مشكلات معاصرة، ويظهر الطفل ابن إمام المسجد هو الأكثر قوة في اطلاعه وبحثه عبر النت عما عجز والده عن حله، وهو الوسيط حين يعجز الأب عن الحل ويعطيهم حلول قد تتناقض مع ايمانه الديني.
وإذا كانت معالجة قبادي لموضوعته من الناحية الفكرية غير معبرة عن جوهر الموضوعة التي اختار تناولها، أو ممثلة لها، فهي حالة نادرة، جعلها المخرج مصدر الفعل الكوميدي لديه، لكن الذي يحسب له على الصعيد الفني هو اجتهاده في ايجاد حلول بصرية لمشكلة الرؤية من منظور التوأم، الملتصقين من رأسهما ظهرا لظهر وينظر كل واحد منهما باتجاه مختلف.
فنراه يفتتح فيلمه بحوار طويل لاحدهما من دون أن نرى المحاور معه وهو الشيخ لأن الكاميرا تنظر من منظور الشخص التوأم الثاني، وهكذا كان يبدل زاوية نظر الكاميرا بتعاقب، مع منظور الشخصية.
تساؤلات الأبرياء
ومن اليابان تأتي مساهمة المخرج هيدو ناكاتا (مخرج سلسة أفلام “حلقة” والمياه المعتمة)، ليتناول موضوع البوذية في فيلمه “معاناة”، بيد أن الفيلم يتجاهل الغنى الكبير الذي تتوفر عليه البوذية ليقدم حوارا يفتقد إلى العمق بين صياد يفقد كل عائلته في الزلزال وتسونامي الذي أصاب اليابان وراهب بوذي، حيث يتساءل الصياد عن حقيقة عدالة السماء ولماذا يموت الابرياء دون سبب؟ ويقدم المخرج تساؤلاته تلك وسط مشاهد بانورامية عن الدمار والخراب الذي خلفه تسونامي.
وجاءت المساهمة الأبرز في الفيلم من المخرج الإسرائيلي عاموس غيتاي في تقديمه للديانة اليهودية في فيلمه الذي حمل عنوان “كتاب عاموس”، وفيه يواصل نهجه السينمائي الذي قدمه في فيلم “أنا عربية” المصور في لقطة طويلة واحدة دون قطع مونتاجي(النموذج الأجمل لهذا النمط فيلم “رشان أرك” للمخرج الروسي سوكروف). فيصور فيلمه هذا في لقطة واحدة في حركة بان متواصلة تتحرك فيها شخصياته بالتعاقب وتلقي نصوصها أمام الكاميرا.
يختارغيتاي نصوصا من العهد القديم ممتلئة بالعنف والدعوات للحرب والتدمير وتحديدا من سفر عاموس الذي يمتلأ بالنبوءات والدعوات لتدمير كثير من الشعوب والمناطق المحيطة بإسرائيل لخطاياهم بحق ربها، دعوات ضد غزة وصور ومصر وشعب ارام وآخرين.ويلقيها ممثليه (معظمهم ظهر في أفلامه السابقة) في تواتر أمام كاميرا متحركة على خلفية تظهر صراعات بين عناصر جيش وقوى امنية ومتظاهرين واشتباكات وحرائق سيارات وحطام.
ويبنى غيتاي فيلمه بناء موسيقيا (بوليفونيا)، ضمن هارموني بين الكورال الديني الداعي إلى المحبة والسلام الذي يفتتح فيلمه بالتضاد مع الأصوات المتعددة التي تتداخل معه والعنف والفوضى الجارية في خلفية الحدث.
وبعيدا عن خفة الكوميديا ايضا، تأتينا جرعة جدية أخرى من المخرج الشهير أمير كوستاريتشا في فيلمه “حياتنا” الذي يغطي جزء المسيحية الارثوذكسية الشرقية في الفيلم.
يؤدي كوستاريتشا في الفيلم دور راهب يقضي جل وقته في تقطيع الحجارة، ثم يختبر ألمه وتحمله في نقلها إلى أعلى قمة جبل ليرميها من هناك.
يقدم كوستاريتشا قصيدة بصرية تترك الكثير من التساؤلات الوجودية عن جدوى حياتنا ويقيننا الديني والتطهر عبر المرور بدرب المعاناة والألم وقهر الجسد ورفض غواية الحواس.
وتأتي المساهمة الأخيرة في الفيلم من صاحب المشروع المكسيكي غييرمو أرياغا الذي قدم فيلم الختام تحت عنوان “دم الرب”.
ويفترض في هذه القطعة الاخيرة أن تقدم المنظور الإلحادي، لكنها بدت أقرب إلى نص قيامي يستعير من “سفر الرؤيا” ومن الأجواء القيامية الدينية الكثير من ملامحه، فضلا عن رؤى الفيلسوف نيتشه.
يقدم أرياغا حكاية أب يائس وابنه المهندس الملحد. وتراود الأب رؤى مضطربة في أحلامه عن الرب، يحكيها لابنه الذي لا يصدقها، وينتهي الامر بانتحاره، ليقدم أرياغا واحدا من اجمل مشاهد الفيلم، حيث تبدأ السماء تمطر دما، ليتلون بالدم كل شي في الوجود: المدينة، الأرض، المباني،الاشجار، الغابات، الانهار والشلالات.
واستخدم أرياغا فواصل للربط بين افلام المخرجين التسعة من افلام التحريك صممتها الفنانة ماريبيل مارتنينز لم يكن لها أي وظيفة سردية سوى وظيفتها الجمالية كفواصل بين الافلام، وقد رافقتها موسيقى وضعها المؤلف الموسيقي اللبناني الأصل غبرييال يارد.