كيف غيرت المصاعد العالم من حولنا؟
- جوناثان غلانسي
- صحفي متخصص في فنون العمارة
أدى اختراع المصعد إلى ظهور طراز جديد تماما من الفنون المعمارية، كما كان لهذا الاختراع أثر ثقافي عميق علينا، هكذا يرى جوناثان غلانسي، الصحفي المتخصص في فنون العمارة والتصميم.
تُباع القصص المخيفة التي تكون المصاعد محورا لها في الولايات المتحدة بعشرة سنتات لشراء عشرة منها، وبعشرة بنسات في المملكة المتحدة أيضا.
وفي هذين البلدين، الناطقين باللغة الانجليزية، يُطلق على المصعد اسمان مختلفان. وأيا كان الاسم؛ فالحديث عن المصعد يثير في النفس مخاوف من أن يعلّق المرء بداخله يوما، أو أن يهوي به إلى حيث يلقى حتفه في بئره المظلم.
وبالنسبة لصناع السينما، كانت المصاعد بمثابة هبة من السماء. ففي فيلم “دي ليفت” (أو المصعد)، وهو عمل سينمائي هولندي مخيف أُنتج عام 1983 وأخرجه ديك ماس، ظهر المصعد في صورته الأكثر شرا على الإطلاق.
ففي ذلك الفيلم كان المصعد مزودا بدماغ موصولة بما يُعرف بـ”كمبيوتر حيوي”، وهو جهاز يستخدم نظما مستمدة من جزئيات حيوية مثل الحمض النووي والبروتينيات لآداء المهام التي توكل إليه.
وكان بوسع المصعد في ذلك الفيلم انتقاء أساليب قذرة لقتل من خدعوا باستخدامه دون علم مسبق بحقيقته.
وكعلاج لذلك الفزع الرهيب من المصاعد، يمكنك مشاهدة فيلم ألفريد هيتشكوك (North by Northwest) (إلى الشمال عبر الشمال الغربي)، وهو من إنتاج عام 1959. في هذا الفيلم؛ يعمل البطل روجر ثورنهيل- الذي يؤدي دوره كاري غرانت- مديرا تنفيذيا في وكالة للإعلان، لكن البعض يحسبه جاسوسا عن طريق الخطأ.
وفي أحد مشاهد هذا الفيلم المثير والرائع، يستقل ثورنهيل ووالدته مصعدا غاصا بالناس في أحد الفنادق، جنبا إلى جنب مع بعض رواد الفندق واثنين من القتلة. لكن أجواء التوتر هذه تتبدد تماما عندما تقول الأم بأدب لا حدود له “أيها السيدان المحترمان، أنتما بصدد محاولة قتل ولدي، أليس كذلك؟”.
وبينما يحدق ثورنهيل (غرانت) بتجهم، تندلع موجة من الضحكات في المكان، بهدوء وأدب أولا، ثم على نحو هيستيري بعد ذلك، لتشمل كل المحتشدين في المصعد، بمن فيهم المجرمان اللذان أُحبطت خطتهما لقتل الرجل.
وقد ارتبطت المصاعد بمثل هذه المخاوف والمشاعر القوية، منذ اللحظة التي عرض فيها إليشا غريفز أوتيس مكابح الأمان الخاصة بالمصاعد، في معرض استضافته نيويورك عام 1853، وشمل ابتكارات صناعية من شتى أنحاء العالم.
في ذاك اليوم البعيد، وقف ذلك المخترع، ذو الميول الاستعراضية، على منصة عالية، آمرا بقطع الحبل الذي يبقي المنصة معلقة، بواسطة فأس. ولكن قبل حتى أن يتسنى للجمع المحتشد في الأسفل الشهيق انفعالا، تحركت المنصة ببطء إلى أن توقفت تماما على نحو مفاجئ.
وعبر تكرار التجربة مرات عدة، أقنع هذا العرض- ذو الطابع المسرحي– العالم بأن المصعد يتمتع بالسلامة والأمان.
المصاعد عُرفت على أي حال قبل ألفي سنة على الأقل. فقد لاحظ (فيتروفيس)، ذاك المهندس المعماري الروماني الذي عاش في القرن الأول الميلادي، وجود تصميم لواحد من تلك المصاعد، وضعه أرشميدس في عام 235 قبل الميلاد تقريبا. لكن أهمية ما قام به أوتيس تكمن في أنه برهن للعالم كون هذه الروافع آمنة للاستخدام اليومي من قبل البشر.
الصعود إلى أعلى
في عام 1857، تم تركيب أول مصعد للركاب يعمل بطاقة البخار في متجر (إي في هوغ ووت) بحي برودواي في مدينة نيويورك الأمريكية.
المتجر، الذي صممه جون بي غاينر، كان يبيع لعملائه المصنوعات الخزفية الصينية، وكذلك المصنوعات الزجاجية والفضيات والثريات. وكان المتجر يزهو بأن واجهاته مصممة على طراز مماثل لطراز مكتبة القديس مارك، التي شُيدت في القرن السادس عشر بمدينة البندقية الإيطالية، وصممها المعماري الإيطالي جاكوبو سانسوفينو.
على الرغم من ذلك، كان لابد لتصميم المتجر من مواكبة عصره، وهو ما تجلى في أن تكون الواجهات مشغولة من حديد الزهر. أما المصعد فكان ضربا من الترف وتدليل العملاء.
فالمبنى، الذي أُعيد تشييده على ذات الطراز الذي كان عليه بعد أن اُعتبر من ضمن المباني ذات القيمة التاريخية والمعمارية، كان يتألف من خمسة طوابق فحسب.
ارتفاع متجر (إي في هوغ ووت) لم يكن على أي حال يختلف عن أقصى ارتفاع ممكن لسواه من المباني السكنية أو التجارية في العصر الذي سبق اختراع مصعد الركاب الموثوق في أمنه وسلامته. لكن صاحبه إيدر هوغ ووت كان يدرك أن هناك من عملائه من سيتردد على متجره فقط لركوب المصعد، وليس لأي شيء آخر.
ومنذ تلك اللحظة، صعد نجم المصعد مع تزايد عدد المباني شاهقة الارتفاع، التي جعل هذا الاختراع تشييدها مجديا من الوجهة العملية.
وعلى مدى الأعوام المئة والخمسين الماضية، تنوعت الأشكال التي تتخذها المصاعد، لتظهر في تصميمات يتسم بعضها بالغرابة.
وعلى الرغم من أن غالبية المصاعد في الوقت الحاضر لا تزيد مساحتها تقريبا عن غرفة تشبه الصندوق، وتنزلق صعودا وهبوطا في ما يُعرف بـ (بئر المصعد) حالك الظلمة، فإن من بينها ما صار محطا للأنظار في حد ذاته.
من الأمثلة على ذلك؛ المصاعد المدهشة والرائعة التي صممتها شركة أوتيس لبرج إيفل.
فتلك المصاعد ذات الطابقين تمضي بسلاسة مع المنحنيات التي يتخذها هذا الصرح المشيد من الحديد، والذي يطل بشموخ فوق منطقة تشامب دي مارس العشبية القريبة منه.
وتسنح الفرصة لركاب هذه المصاعد لمطالعة مشاهد مبهرة ومحيرة للأعين، ليس فقط لمعالم العاصمة الفرنسية، ولكن كذلك للأساليب الفاتنة، التي تمكن من خلالها المعماري الفرنسي غوستاف إيفل من تركيب برجه غير المسبوق قطعة إثر أخرى.
وقد وفرت شركة أوتيس 73 مصعدا تم تركيبها في بناية (إمباير ستات)، وهي ناطحة سحاب شهيرة في نيويورك، صُممت على طراز يُعرف بـ(آرت ديكو)؛ وهو نمط فني ومعماري راج في الربع الأول من القرن الماضي. ولكن للصعود إلى قمة هذا المبنى الواقع في الشارع الخامس بالمدينة، يتطلب الأمر تغيير المصاعد.
ويرجع ذلك جزئيا إلى أن هذا البرج، مثله مثل الأهرام المتدرجة عالية الارتفاع، تتناقص كتلته كلما علا ارتفاعه. لكن ذلك ليس السبب الوحيد، فقد كان – ولا يزال – هناك حد أقصى آمن للارتفاع الذي يمكن أن يصل إليه المصعد، وذلك وفقا لقوة الكابلات الفولاذية التي تسحبه إلى أعلى وأسفل.
وفي العام الماضي فقط، أعلنت شركة (كوني) الفنلندية للمصاعد أنها ابتكرت حبالا جديدة للمصاعد مصنوعة من الألياف الكربونية، وهي مادة أكثر قوة وأقل وزنا من الفولاذ. ومن شأن هذا الابتكار فتح الطريق أمام ظهور جيل جديد من المصاعد، يمكنه الوصول إلى ارتفاع يفوق الكيلومتر الواحد.
وهكذا، فسيكون بوسع المرء قريبا الوصول إلى أسطح مبانٍ شاهقة يفوق ارتفاعها الميل، بمجرد تغيير المصعد مرة واحدة فحسب.
قمة العالم
منذ الحقبة التي أُنتج فيها فيلم “إلى الشمال عبر الشمال الغربي”، ظلت الشقق الساحرة التي تُشيد في الطابق الأخير من المباني السكنية، ذات بريق له طابع فريد يسترعي انتباه الرجال.
أما الآن، فقد باتت المصاعد أكثر أمانا بالقدر الذي يجعلها قادرة على إيصال الأثرياء من القوم إلى أسطح مبانٍ أكثر ارتفاعا وذات إطلالات فاتنة.
وفي هذا السياق، فبعدما كانت الشقق الواقعة في الطوابق العليا من المباني السكنية تُستخدم كغرف للتخزين أو للخدم، فقد جعلت المصاعد من تلك الشقق الأماكن الأكثر رواجا بين نظيراتها في سوق العقارات.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد؛ فحتى المصطلح الذي يُستخدم للإشارة إلى هذه الشقق في اللغة الانكليزية؛ وهو (بنتهاوس) كان سببا في ثروة راكمها بوب غوتشيوني، وهو شاب كاثوليكي ولد في بروكلين، من أصول تعود إلى جزيرة صقلية الإيطالية.
فقد أطلق غوتشيوني عام 1965 مجلة “دولية” فاتنة تحمل اسم (بنتهاوس)، وموجهة للرجال المتصابين، لتشكل منافسا لمجلة (بلاي بوي) التي أسسها هيو هيفنر.
وهكذا فبدون مكابح الأمان التي اخترعها أوتيس، لم يكن ليظهر مثل أولئك (الفتية) الذين يقطنون الشقق الواقعة في الطوابق العليا من المباني السكنية في المدن. وبالتبعية كذلك، لم تكن مجلة (بنتهاوس) لتظهر و تتراكم معها ثروة غوتشيوني.
أما هؤلاء ممن لا يتمتعون بهذا الثروة، فلا يخلو الأمر من كسب لهم أيضا، إذ أن لديهم فرصة الاستمتاع برحلات مثيرة صعودا وهبوطا بداخل المصاعد في شتى أنحاء العالم.
فهناك مصاعد برج خليفة في دبي؛ أعلى مبنى في العالم، والتي تزهو بما تحتوي عليه من تقنيات حديثة، تجعل ركابها يستمتعون بالأضواء الملونة المتلالئة التي تتحرك هنا وهناك في تشكيلات مبهرة. كما تنطلق هذه المصاعد إلى أعلى المبنى بسرعة صاروخية تصل إلى 60 كم في الساعة.
نمط آخر يتمثل في المصاعد الزجاجية الموجودة في ردهات الفنادق، وخاصة في الولايات المتحدة، وهي توفر لركابها رحلات تنقطع لها الأنفاس، إذ يمرون خلالها بطوابق الفندق المختلفة على نحو يصيب بالدوار.
وفي لندن، تظل من بين أكثر المعالم التي تأخذ الأبصار في حي المال بالمدينة؛ تلك المصاعد الزجاجية التي تتحرك صعودا وهبوطا، على واجهة مبنى مصرف لويدز، والذي شُيد في ثمانينيات القرن الماضي، وصممه مكتب (ريتشارد روجرز) للتصميمات الفنية.
وهكذا، فإن إليشا أوتيس أطلق في عام 1853 ابتكارا يأبى أن يعود القهقرى. نمط من أنماط النقل الرأسي، أدى إلى حدوث تغييرات ستبقى للأبد على صعيد الثقافة والهندسة المعمارية، بينما يواصل هذا الابتكار رحلته صاعدا إلى قمم الجبال، ومُداعبا ومُثيرا لمخيلتنا الجماعية في الوقت نفسه.