كواليس ليلة ثورة يوليو كما روتها مذكرات زوجتى «عبدالناصر» و«السادات»

تمثل ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ واحدة من أهم وأخطر الليالى فى تاريخ مصر الحديث. بما حملته من قلق وخوف وترقب مما يخبئه المستقبل كما مثلت ليلة فارقة فى حياة السيدة تحية كاظم زوجة قائد الثورة جمال عبدالناصر والسيدة جيهان السادات زوجة أنور السادات. ومن خلال مذكرات سيدتى مصر نكشف عن بعض تفاصيل وأجواء هذه الليلة من خلال ما كتبته كل من تحية عبد الناصر، وجيهان السادات فى مذكراتهما. خلال السطور سنتعرف على قصة الوعد الذى وعد به أنور السادت لوالد زوجته وذهابهما إلى السينما ليلة الثورة.. وقصة مجىء ثروت عكاشة لبيت عبد الناصر وتهنئته للسيدة تحية عبد الناصر.


وعن ذكريات هذه الليلة والتى عاشتها عن قرب وعانت لحظات القلق والخوف روتها زوجة الزعيم جمال عبد الناصر، كشفت فى مذكراتها التى حملت عنوان «ذكريات معه»، بدأت بالأيام السابقة على ٢٣ يوليو شهر مايو ويونيو فى شهر رمضان والعيد حتى يوم ٢٩ يونيو ١٩٥٢ ذهابهم عطلة الصيف فى الإسكندرية والذى صادف عيد زواجهم وعودتهم للقاهرة ١٠ يوليو. وتحت عنوان «الأسبوع الأخير قبل الثورة» قالت فيه «اليوم الثانى والعشرون من يوليو سنة ١٩٥٢، الساعة السابعة صباحا.. دخل جمال الحجرة وكان يلبس الملابس العادية.. القميص والبنطلون ولم ينم طول الليل.. وجالس فى حجرة السفر يشتغل كالليلة السابقة.. حيانى واستعد للخروج واستبدل ملابسه بالملابس العسكرية وتناولنا الإفطار سويا.


وتواصل تحية عبد الناصر: خرج ورجع عند الظهر، وتناول الغداء مع الضباط، وظل معهم فى الصالون وحجرة السفرة وقتا ثم خرج الضيوف، تحدث معى جمال وقال: لما لا تخرجى وتأخذى معك هدى ومنى وخالد وتذهبين للسينما والجو حار وتتسلى ويذهب معك أخواتى.. فقلت: نعم سأفكر فى الذهاب، وحيانى وخرج. بعد خروجه وقرب المغرب فضلت أن أخرج أمشى بالقرب من الحديقة التى أمام قصر القبة، ومعى هدى ومنى وخالد ومشينا حتى بعد الغروب ورجعنا وكانت الساعة قبل الثامنة.. قال لى شقيقه: إن أخى حضر من وقت قصير وسأل عنك وعن الأولاد وأخبرناه بأنك تتمشين عند قصر القبة. وبعد قليل حضر جمال وكان يلبس القميص والبنطلون، وخرج بمفرده وقبل الساعة الحادية عشرة مساء رجع جمال ودخل الحجرة، كان من عادته يغسل وجهه قبل النوم فقلت فى نفسى: إنه لم ينم ولا ساعة منذ يومين وها هو الليلة سينام مبكرا.. وجدته بعد أن غسل وجهه فتح الدولاب وأخرج البدلة العسكرية ووجدته يرتديها.. فقمت وجلست وقلت له بالحرف: إنت رايح فين بالبدلة الرسمية دلوقت؟.
وهنا قالت تحية عبدالناصر.:«وكانت أول مرة أسأله إنت رايح فين منذ زواجنا».. فرد على بكل هدوء وصدر رحب قائلا: أنا لم أكمل تصحيح أوراق كلية أركان حرب ويجب أن أنتهى من تصحيحها، وغدا تكون كلها كاملة التصحيح. بعد أن سمعت باب المسكن يقفل قمت وخرجت من الحجرة.. وجدت أخويه الاثنين جالسين فى حجرة المكتب فقلت لهما: إن جمال اعتقل.. فرد شقيقه ليثى قائلا: لا إنه لم يعتقل اطمئنى.. فقلت: إنه خرج وارتدى ملابسه العسكرية وينتظره ضابط كما حدث يوم أن اعتقله إبراهيم عبدالهادى.


بعد دقائق – وكانت الساعة الثانية عشرة – سمعت صوت طلقات رصاص كثيرة شعرت أنها صادرة من ناحية قصر القبة.. فقمت مسرعة وخرجت إلى الصالة ووجدت شقيقيه فقلت: ما هذا الضرب.. الطلقات فى قصر الملك ولابد أن يكون جمال من الذين يطلقون الرصاص ويهاجمون القصر. قبل الساعة الثانية صباحا رأيت العربات المصفحة والدبابات والجيش، وسمعت صوت الدبابات وهى تكركر وتمر فى الشارع وتمشى فى ميدان المستشفى العسكرى، وكنت أعرف شوارع ثكنات الجيش وأمر عليها فى خروجى، إذ كانت كلها قريبة من بيتنا، ورأيت أخويه يقفزان من الفرح ويقبلان بعضهما وقالا: افرحى افرحى فقلت: وأين جمال.. والطلقات التى سمعناها؟ وأخذت أبكى وقلت: الآن أنا فهمت، إنها حركة للجيش.. وقال شقيقاه: لقد أخبرنا قبل خروجه أنه ذاهب فى مهمة خطيرة: فإذا رأيتم الجيش نازل والدبابات والعربات اعرفوا إنى نجحت، وإذا لم تروا شيئا اسألوا عنى غدا واعرفوا أنا فين. قلت: أنا الآن عرفت أنها حركة للجيش ونجحت، بس أين جمال؟ أريد أن أطمئن عليه.. وكنت أبكى وبقيت جالسة حتى الصباح لم أدخل حجرة النوم.
وفى الساعة السادسة والنصف صباحا يوم ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢ سمعنا خبطا على الباب وفتح شقيقه، وكان الذى حضر ثروت عكاشة وطلب مقابلتى، هنأنى قائلا أهنئك من كل قلبى، نجحت حركة الجيش، فقلت على الفور: وفين جمال؟ قال بالحرف: هو قريب منك بينك وبينه خمس دقائق، موجود فى القيادة العامة وطبعا تعرفيها؟ فقلت: إنى أمر عليها كثيرا وأعرفها جيدا، وقال: اسمعى البيان فى الراديو الساعة السابعة.. فشكرته وانصرف.
فتحنا الراديو لنسمع البيان، الذى قرأه أنور السادات، وفى الساعة العاشرة مساء حضر جمال، وبعد أن هنأته من كل قلبى قال: سأبقى ساعتين فقط وأرجع إلى القيادة وقال إنه لف الشوارع الرئيسية فى البلد مع اللواء محمد نجيب – وكانت أول مرة أسمع اسمه – وإن البلد كله خرج لتحيتهم وكلهم حماس، لقد اقتحمنا القيادة العامة بفرقة من الجيش ومعى عبدالحكيم عامر، ولم يصب إلا اثنان فقط من الجنود.. واحد من حرس القيادة وواحد من الفرقة التى معنا. وفى الساعة الثانية عشرة مساء قام جمال وقال لى: لا تنتظرينى فسأبقى فى القيادة وظل جمال فى القيادة ولم يحضر البيت حتى يوم ٢٦ يوليو سنة ١٩٥٢ الساعة الخامسة صباحا.
أما عن ليلة ثورة ٢٣ يوليو كما عاشتها زوجة الرئيس أنور السادات، السيدة جيهان السادات تحدثت عنها فى مذكراتها «سيدة من مصر» قالت فيها: «لقد حفر يوم حريق القاهرة بحروف من نار فى ذاكرة مصر وغير مجرى التاريخ. لقد انفجر السخط على الحكومة وهز العرش نفسه، كان يوسف رشاد من أهم الشخصيات فى حياة أنور فى ذلك الوقت الذى لم يكن يعرف أن أنور ينتمى إلى جماعة مناهضة للملك، قد أفضى إليه بأن الشعب قد أخاف الملك إلى درجة أنه يستعد للهرب من البلاد. ودفع ذلك الضباط الأحرار إلى أن قدموا تاريخ القيام بالثورة من عام ١٩٥٥ إلى نوفمبر أى بعد عام واحد.
وفيما يخص ليلة الثورة قالت: «فى يوم ٢٢ يوليو اتصل بى أنور من رفح وقال: جيهان إنى قادم فى إجازة» فى إجازة؟ مضيفا: «إن أمى مريضة».. أمه مريضه؟ كنت قد زرتها فى ذلك اليوم فى بيتها ووجدتها فى صحة جيدة، ما هذا الغموض؟ وذهبت لمقابلته فى محطة السكة الحديد. وبمجرد أن وصل قال لى: «دعينا نذهب إلى شارع الهرم»، وبينما كنا نطوف بالسيارة سألنى ونحن فى وسط الصحراء: «جيهان، هل تذكرين الوعد الذى أخذته على نفسى أمام والدك بألا أتدخل فى السياسة» فأجبت وأنا ناظرة بحب استطلاع إلى زوجى، وكان يدخن السيجارة بعد السيجارة: «طبعا» فقال بسرعة: «حسنا إنى فى الواقع لا أعمل فى السياسة ولكن أحيانا أجلس مع بعض أصدقائى ونتحدث فى السياسة ثم ينتابنى شعور بالجرم» ولم أدهش بالمرة، والواقع أنى أحسست بالراحة وتجلت فى الحال وإن كنت شعرت أن أنور لا يقول الحقيقة كاملة: «إذا لم تشارك بآرائك السياسية مع أصدقائك، فلن تكون السادات الذى تزوجته، لقد كنت غيورا فكيف تتوقف فجأة؟».
فقال أنور: «ولكنى وعدت أباك وعدا لم أحفظه تماما». وقلت له: «أنور إن والدى طلب منك ذلك بسببى ولكن لم يسألنى عن رأيى».. فسأل أنو ر بهدوء «إذن ماذا تقولين» لم أتردد فى الإجابة فقلت: «إن معظم الزوجات لا يرغبن فى أن يعيش أزواجهن فى خطر، أو أن يجازفن بأمانهن بسبب دخول أزواجهن السجن. ولكنك لست زوجا عاديا، وأنا لا أريدك أن تكون كذلك، إن أنور الذى وعد أبى لم يكن أنور الذى تزوجته ولا أنور الذى يتحدث الآن، إن ما فعله والدى كان واجبه تجاه ابنته. ولكنى الآن زوجتك، لا تحاول حتى التفكير فى ذلك الوعد».
وفى الحال بدأ أنور فى الاسترخاء واقترح: «لنذهب إلى السينما الليلة مع والديك» وكان غريبا كيف استطاعت كلمات قليلة أن تزيح مثل هذا العبء الثقيل عنه؟ ولكن لم أكن أعرف حتى الآن لماذا عاد إلى القاهرة؟ وكان أثناء الفيلم عطوفا أكثر من المعتاد.. لم أكن أعرف إذ ذاك أن أنور كان فى الواقع يودعنى.
ذكرت السيدة جيهان فى مذكراتها: «قد تلقى رسالة شفوية فى رفح من جمال عبدالناصر بأن الثورة ستقوم فى تاريخ بين ٢٢ إلى ١٥ أغسطس وأنه لابد من حضوره فى الحال إلى القاهرة ومرة أخرى تقرر تقديم موعد الثورة بسبب شائعة بأن الحكومة الجديدة لن تضم إسماعيل شيرين فقط، وإنما حسين سرى عامر أيضا، وهو يعرف شخصيا سبعة من الضباط الأحرار، وكان دائم التهديد يكشف أمرهم للملك وقال عبد الناصر لأنور: «يجب أن نتغدى بهم قبل أن يتعشوا بنا». وحين عدنا إلى منزل والدى أعطانى البواب رسالة قائلا: «لقد جاء رجل مرتين باحثا عنه وأخيرا ترك له هذه الرسالة» وأعطيت الرسالة لأنور وفى الحال وجدت الدم يهرب من وجهه وقال لى وهو يهرع إلى المنزل «لابد أن أذهب فى الحال» وارتدى بذلته العسكرية وسألته «إلى أين أنت ذاهب» قال: أحد أصدقائى مريض جدا ويجب أن أذهب إليه. سألته: «فى بذلتك العسكرية؟»، فتوقف لحظة وقال بعنف: يجب أن آخذه إلى المستشفى للحصول على دواء له فى هذا الوقت المتأخر من الليل والبذلة الرسمية تسهل الأمور. ثم قبل وجهى وأسرع فى نزول الدرج.
وانتظرت طول الليل عودة أنور وأخيرا فى الساعة السابعة إلا ربع دق جرس التليفون وتحول سرورى لسماع صوت أنور إلى غضب منه لقلقى عليه بهذا الشكل، وسألته بغضب: «أين أنت؟ وأين قضيت الليل؟ فقال: افتحى الراديو يا جيهان وستعرفين كل شىء. وكان هناك فى صوته أكبر من أى شك بل أكبر من القلق الذى أحسسته فسألته أنت بخير؟ فأجاب بخير، وأدرت الراديو فى الحال ولم أسمع إلا القرآن يقرأه أحد القراء.. ما الذى يحدث؟ فجأة فى الساعة السابعة والنصف سمعت وسمعت كل مصر صوت أنور يقرأ بيان الضباط الأحرار». لم أكن أتصور أنى لن أسمع صوت أنور مرة أخرى لمدة ثلاثة أيام.