فيلم “ريش” أو تَجَنِّي الفنان على الخيال – أونيفار نيوز
-
المشكلة لها جذور ضاربة في القرون… منذ تحريم الإسلام للفنون…
-
“لا عقاب… على الخيال…!!!”
بقلم : سلوى الشرفي
انسحبت مجموعة من نجوم الفن المصري، من بينهم يسرا وإيناس الدغيدي، من عرض فيلم “ريش” للمخرج عمر الزهيري. وهو أول فيلم مصري حصل على الجائزة الكبرى في أسبوع النقاد في مهرجان “كان”. انسحب هؤلاء بحجة “الإساءة إلى مصر وعدم تعبير الفيلم عن الواقع”. وانطلقت حملة تطالب بحجز الفيلم.
وقد صدمتني حجة “عدم تعبير الفن عن الواقع”، فهي من العبارات الأضداد. لأن الأعمال الفنية قوامها الأساسي الخيال والفنتازيا. واتضح أنها حجة سياسية بعد أن تم التشكيك في وطنية المخرج حين قال شريف منير “انا عندي حتة غيرة جوايا على مصر. وانا بسخن شوية. يمكن انا موش فاهم الفن. الفن ينقل الواقع مجمل شوية”.
وبقطع النظر عن الجودة الفنية للفيلم الذي تمكنت من مشاهدة النسخة المسربة عنه، فأحداثه تدور خارج الزمان والمكان والألوان بحيث ان علاقته الوحيدة بمصر هي اللهجة. غير ان عديد الأشخاص دأبوا على اعتماد حجج لا صلة لها بالفن لإخراس صوت الفن.
وقد تكررت في تونس في السنوات الأخيرة ظاهرة التهجم على الفن، من أحداث فيلم “برسيبوليس”، وشريط نادية الفاني، إلى محرقة رسوم العبدلية، كما تم إيقاف أعضاء فرقة مسرحية في الكاف بتهمة “التجاهر بما ينافي الحياء” بسبب ظهورهم في لباس السباحة. ففهمنا الرسالة. فهمنا انه يجب غلق دكاكين عرض هذه الأزياء التي قد تخدش حياء قليلي الحياء. وكان القاضي التونسي قد أصدر على مغني الراب “ولد ال15” حكما بستة أشهر مع تأجيل التنفيذ. فكان علينا أن نفهم أن الخيال التونسي في “سرسي”.
تكررت الظاهرة بتهم متنوعة من أغربها تهمة الابهام وكأن الفنان مجبر على شرح عمله. فالفنّان لا يمتهن السياسية لكي يفرض علينا معنى رسميا لخطابه. وكما قال عمرو أديب في رده على مهاجمي فيلم “ريش” “الفن ما يتشرحش”. والفنان ليس مسؤولا على ضعف التربية على لغة الفنّ في مجتمعاتنا العربية.
فلننظر مثلا ما يتعلّمه الطفل، في أغلب المدارس العربيّة، من فنّ الرسم وهو أساس التعبير الفني. يوجد مستويان من التصوير، أحدهما يحاكي ما هو خارجي، وهو أقرب ما يكون إلى النّسخ أو إلى الكلام التقريري، والثاني ذاتي يعبّر عمّا بداخل الفنان، مثل لغة الرّواية. و النوع الأول، التقريري الذي يعكس الواقع، هو الطاغي في برامج التربية على الفن، حيث يفرض على التلميذ مثلا تصوير البيت كما يجب أن يكون أو كما هو كائن، و ليس كما يمكن أن يتصوّره الطفل، أي أن العمليّة أبعد ما تكون عن الإبداع.
ما حصل لفيلم ريش لا يعدّ إذن استثناء، ففي المنطقة الإسلامية يندر أن يتكلم المتلقي والفنان نفس اللغة. والمشكلة لها جذور ضاربة في القرون منذ تحريم الإسلام للفنون، اعتمادا على أحاديث أدت إلى شبه إجماع بالتحريم.
فكيف أمكن للمسلمين العيش طيلة قرون في محاذاة الصورة وهي التي قعّد لها الفلاسفة من القدم مثل أرسطو في كتابه “فن الشعر” وأفلاطون في الأخيلة المضلّلة، فأشاروا إلى محاسنها كما نبّهوا إلى خداعها بنفس العمق والاهتمام الذي اشتغلوا به على الخطاب القولي؟ كيف عاشوا خارج الصورة وهي القادرة على إحضار الشيء الغائب؟ أي أنهم عاشوا، وما زالوا، مقصيين عن جزء كبير من تاريخهم. كيف عاشوا بدون الصورة، التي قد يكون الإنسان عبّر بها قبل تعبيره بالكلمات؟
إن تهميش الفنون، له انعكاسات خطيرة، ليس على ملكة الإبداع فقط، بل على التواصل، إذ تعد الصورة مثلا لغة تداولية بين البشر، وهذا يعني أن حرمان الإنسان من الفنون يؤدّي إلى تقليص قدرة الإنسان على خلق المعاني، أي على التفكير، وإفقار الخصوصية، فالمعنى ذاتي أو لا يكون. والإنسان خلاق معنى وليس رصّاف كلمات وفكّاك حروف، وهي مع الأسف الوظيفة الأساسية التي قرّرها المسلمون للغتهم، وهو ما يفسّر مواصلة طغيان المنهج الظاهري المؤسس على المبدأ القائل بأن اللسان العربي يفيد العموم مطلقا عن الزمان والمكان.
فهل يكون كل هذا الخوف من الفن بسبب قدرته على توليد معان متعددة في ثقافة تصرّ على التوحيد في كل شيء؟
وفي المقابل وحتى لا نتجنّى كثيرا على ثقافة المسلمين، نذكّر بان القاضي المصري كان قد رفض تجريم أعمال الممثل عادل إمام بتهمة مس المقدسات. وقال القاضي المصري، سليل ترسانة شعر وغناء ومعابد رقص وصناعة سينمائية، قال قولته الشهيرة: “لا عقاب على الخيال”
إن شعبا ينتج فكرا قضائيا كهذا لا يمكنه قبول تجني أهل الفن على الفن.
سلوى الشرفي
أستاذة الاعلام والاتصال