فى ذكرى رحيل الفنان محمد عبدالوهاب.. عبقرية موسيقار الأجيال.. سيرته ومسيرته فى أكثر من كتاب
«فنان عبقرى» يؤمن تمامًا بأن مكانه الطبيعى بين صفوف الزعماء، درس الرأى العام دراسة عملية صحيحة، فعرف رغباته وميوله، وساعدته هذه الدراسة على أن يقدم رسالته فى التجديد الموسيقى فى «برشامة» هضمها الشعب بسهولة، واستطاع أن يتزعم الجيل الجديد، وأن يكتب اسمه بحروف كبيرة فى التاريخ الفنى.. بهذه الكلمات تحدث عبد الوهاب عن نفسه بناء على طلب إحدى المجلات الفنية أغسطس عام 1950.
لم نر أصدق من تلك الكلمات لتخبرنا عن الموسيقار محمد عبد الوهاب، الذى تغنى بألحانه معظم المطربين العرب، فكان إنتاجه الفنى فى بدايات القرن العشرين يعتبر ثورة فنية، فهو صاحب أشهر وأكثر من غنى للثورات العربية.. رغم رحيله ٤ مايو ١٩٩١ ظلت ألحانه وموسيقاه وأغانيه وأعماله السينمائية إرثًا تتوارثه الأجيال، فاستحق بجدارة لقب «موسيقار الأجيال»، كما لقب بمطرب الملوك والأمراء، حيث انفرد بالغناء فى حضرتهم، واعتبر صاحب الصوت الغنائى الأول فى عالم الطرب طيلة أكثر من ثلاثين سنة والمطرب الأول فى العالم العربى.
كثيرة هى الكتب التى تناولت سيرة ومسيرة الأستاذ محمد عبد الوهاب.. من هذه الكتب «محمد عبد الوهاب.. حياته وفنه» للدكتورة رتيبة الحفنى، وفيه اهتمت بالتوقف عند المراحل الهامة من حياته، بدءًا من المؤثرات الأولى، وحتى آخر ما لحن وغنى «من غير ليه»، ومن بين البداية والنهاية أشارت إلى العديد من مراحل تطوره الفنى وظروف لقاء السحاب مع أم كلثوم، وانتهاء بتقدير الدولة والدول العربية والهيئات المهتمة بالموسيقى والغناء لما قدمه من إبداع طوال حياته. كما ناقشت الدكتورة رتيبة اختلاف الروايات حول يوم وسنة مولده، موضحة أن عبد الوهاب يبدو أنه لم يحسم هذه النقطة متعمدًا، وإن كان فى 13 مارس 1902 يظل أرجح الآراء حول مولده.
يستوقفنا عند بداياته، رغم نشأته الدينية، فإنه يلاحظ قلة الإنتاج الدينى فى أعماله، ففى باب الشعرية، ألحقه والده (مؤذن وخطيب مسجد الشعرانى) بكتّاب الحى.. تعلم على يد الشيخ رمضان عريف تجويد القرآن الكريم، لكنه بعد تغير الشيخ رمضان ومجىء شيخ آخر قبيح، كان دائم الهرب منه.. كما يتضح فى كتاب (محمد عبد الوهاب أنغام من الشرق)، كان عبد الوهاب قد مال منذ حداثته إلى الموسيقى والغناء، واستهوته التسابيح والأذكار، فكان يحب الاستماع إلى أصحاب الأصوات الجميلة من أمثال سلامة حجازى ومنصور بدار وعلى محمود وعبد الحى حلمى وصالح عبد الحى وسيد الصفتى. التحق باسم مستعار «محمد البغدادى» بإحدى الفرق، حتى إنه عمل فى سيرك فى دمنهور يغنى فيه بين الفقرات. كما درس فى معهد الموسيقى، وبدأ حياته الفنية مطربًا فى ١٩١٧ بفرقة فؤاد الجزايرلى، حيث كان يغنى القصائد التى حفظها خلال فترات الاستراحة بين فصول الروايات مقابل بضعة قروش، وفى العام التالى تهيأت له الفرصة للعمل بفرقة «عبد الرحمن رشدى» فى مسرحية الشمس المشرقة واكتسب خبرة ومعرفة.
وفى عام 1921 اختاره سيد درويش للقيام بدلًا منه أثناء مرضه بدور البطولة الغنائية «زعبلة» فى أوبريت شهرزاد، الذى كانت تقدمه فرقته الخاصة، وشرب من فنه وعلمه. وهنا يقول فكتور سحاب فى كتابه «السبعة الكبار فى الموسيقى العربية المعاصرة» إن التأثير بأسلوبى الشيخ سلامة حجازى والشيخ سيد درويش فى الغناء، أخذت تحل محله على نحو تدريجى خطوط أسلوب غنائى جديد. وفى العام التالى بعد وفاة سيد درويش التحق عبد الوهاب بنادى الموسيقى الشرقى «معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية»، وكان من أساتذته درويش الحريرى ومحمد القصبجى، فعينوه مدرسًا للأناشيد بوزارة المعارف بمرتب سبعة جنيهات.
من أهم مراحل حياته ارتباطه بأمير الشعراء أحمد شوقى، الذى قام برعايته وتبنيه، فكان بمثابة الأب الروحى والمثل الأعلى لعبد الوهاب، فى عام 1924 بدأ نجم عبد الوهاب يلمع. وكان أحمد شوقى وراء هذا اللمعان، كان يمد الصحف بأخبار عبد الوهاب وبالعبارات التى تشيد بصوته وموهبته. وبدأ عبد الوهاب التلحين والغناء فى عام 1926، وكانت أول أغنية لشوقى يغنيها محمد عبد الوهاب من ألحانه «منك يا هاجر دائى». تلقى بعض الدروس فى الموسيقى العالمية عام 1927 على يد الموسيقى الروسى «شتالوف»، ثم ترك التدريس واقتصر على الغناء والتلحين. فى عام 1928 كان عبد الوهاب معجبًا بالمونولوج الذى لم يكن معروفًا ومطروقًا فى الغناء العربى.. فأبدع فيه وحلق معه إلى آفاق بعيدة، معتمدًا على ما كان يكتبه أحمد شوقى من أزجال. وظهر لعبد الوهاب عدد من المونولوجات، من أشهرها بلبل حيران، اللى يحب الجمال، كتير يا قلبى، الليل يطول عليا.
استخدم عبد الوهاب آلات غريبة جديدة لأول مرة فى الموسيقى العربية، مثل الشيللو والكونترباص، إلى جانب آلتى المثلث والكاستنيت، وهنا أسدل الستار على أغانى التراث وفتحت صفحة جديدة من التلحين والغناء، وأضحى عبد الوهاب سيد الغناء، وتأثر بأسلوبه كل معاصريه ومن جاء من بعده. يعتبر الموسيقار محمد عبد الوهاب هو الرائد أول للسينما الغنائية فى مصر والوطن العربى كمنتج وموسيقار ونجم غنائى، نقل لون الغناء السينمائى العالمى إلى الفيلم المصرى، سبعة أفلام هى كل رصيده. دخل عالم السينما عام 1933 بأول فيلم غنائى «الوردة البيضاء»، ونجح الفيلم وأطلق اسم الوردة البيضاء على الفنادق الجديدة ومحلات الملابس والزهور، واختار المخرج محمد كريم مديرًا فنيًا لأفلامه، ومنها الوردة البيضاء ودموع الحب ويحيا الحب ويوم سعيد وممنوع الحب ورصاصة فى القلب. انتقل عبد الوهاب بالأغنية السينمائية إلى لون جديد يعتمد البساطة، واختصار العرض الصوتى. وأدخل لأول مرة الإيقاعات الراقصة فى الأغانى، مثل إيقاع الرومبا والتانجو والسامبا. وبسبب إدخال هذه الاقتباسات والإيقاعات الأوروبية على موسيقانا استغنى عبد الوهاب عن الفرقة الموسيقية الصغيرة التى تعرف بالتخت الشرقى، واستعاض عنها بأوركسترا أكبر.
عبد الوهاب الذى أنشد أغانى الحب والجمال.. هو نفسه الذى رددنا معه أقسمت باسمك يا بلادى ودقت ساعة العمل الثورى، فبعد نشوب ثورة يوليو 1952 ظهرت عدة أغان وطنية قومية فى المناسبات القومية المختلفة، وقام بتلحين العديد من هذه الأغنيات، وفى هذه الفترة لحن عبد الوهاب بعض الأغانى الوطنية الخاصة ببعض البلاد العربية، مثل نشيد ليبيا 1959، وفى عهد الرئيس السادات لحن عبد الوهاب، قبل مؤتمر كامب ديفيد، أغنيتين «يا زعيمنا يا سادات» غنتها فايدة كامل، و«مصر السادات» غنتها المجموعة. وتعتبر الفترة ما بين 1952 -1962 ألمع فترة فى تاريخ الأغنية الوطنية، وفيها غنى بعد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم ونجاة وشادية وفايدة كامل ونجاح سلام وعبد المطلب وشهرزاد ومحمد فوزى وسعاد محمد. واستمر عبد الوهاب فى إمداد مصر بالأغانى الوطنية واستمر عطاؤه وظهر عدد كبير منها بأصوات مطربينا الشباب كمحمد ثروت.
وجاءت «مرحلة الشوامخ» كما أطلق عليها النقاد، كان اللقاء الأول له مع أم كلثوم فى ١٩٦٤ فيما عرف بلقاء السحاب فى أغنية «أنت عمرى»، واستمر التعاون بينهما.. وهنا يقول عبد الوهاب: «لقد أورثتنى أم كلثوم الوسوسة طوال عملى فى الأغنية.. فـ(أنت عمرى) أول لحن أضعه لها.. وأم كلثوم ليست كأى مطربة أخرى.. وعلى هذا كان علىَّ أن (أغربل) الكلمات واللحن. وهذا ما أخر ظهور العمل بعض الوقت». وبعد نجاح أغنية «أنت عمرى» توالت ألحان عبد الوهاب بحنجرة أم كلثوم، فغنت له عشر أغنيات فى فترة لم تتجاوز التسع سنوات مثل: أنت الحب وأمل حياتى وهذه ليلتى وليلة الحب.. ».
عرف عنه العديد من الألقاب، منها «ملك الأناقة» لأنه كان لا يفصل ثيابه إلا عند تشالجيان، ترزى الطبقة الراقية.. كما كرافتاته التى كان يشتريها من باريس، كما اشتهر بأنه «دون جوان»، رغم أنه فنان خجول جدًا يحمر وجهه خجلًا. وفى عام 1944 تزوج بزوجته الثانية السيدة إقبال نصار أم أولاده عائشة وعفت ومحمد وأحمد، واستمر زواجهما سبعة عشر عامًا، ثم زواجه الثالث والأخير من السيدة نهلة القدسى.
ومنذ ١٩٦٤ توقف عن الغناء ليعود فى ١٩٨٩ ليغنى أغنيته الأخيرة «من غير ليه». قدم عبدالوهاب أيضًا مقطوعات موسيقية، منها موكب النور وزينة وعزيزة وحبيبى الأسمر، وكان فى ١٩٥٣ قد انتخب رئيسًا لنقابة الموسيقيين، وشغل موقع رئيس اتحاد النقابات الفنية، وجمعية المؤلفين والملحنين، وحصل على الدكتوراة الفخرية من أكاديمية الفنون، ويُعد أول موسيقى فى العالم العربى، وثالث فنان بالعالم يحصل على الأسطوانة البلاتينية، ولُقب بالفنان العالمى من جمعية المؤلفين والملحنين فى فرنسا عام ١٩٨٣، ولقى تكريمًا فى أكثر من عهد، فكرمه الملك فاروق والرئيس عبدالناصر والرئيس السادات الذى منحه الدكتوراة الفخرية، والرئيس السابق مبارك، وكُرم من خارج مصر من الرئيس بورقيبة، والملك حسين، والملك الحسن الثانى، والملك فيصل، وحصل على وسام الاستقلال الليبى والسورى وجائزة الدولة التقديرية وقلادة النيل.