عاطف محمد عبد المجيد يكتب: سامى الغباشى يرحل بطريقة «شاعر ابن أصول»
يحزننى جدًّا أن أقرأ خبر رحيل صديق أو شخص أعرفه، أو حتى لا أعرفه، فالموت بالنسبة لى شىء محزن للغاية، وكثيرًا ما أضع نفسى مكان الذين رحلوا، متخيلًا حزن الذين سيمثل رحيلى لهم شيئًا قاسيًا، لكنى حين قرأت خبر رحيل الشاعر والنحات سامى الغباشى شعرت بضربة قوية تصيب قلبى، ربما ينتابنى شعور كهذا للمرة الأولى فى حياتى. ولأن سامى الغباشى إنسان جميل، فقد كان واحدًا ممن أحرص على أن أهاتفهم على فترات قريبة للاطمئنان عليهم، وهم فى معركتهم الخاصة مع هذه الحياة، وكان كثيرًا ما يحرص على سؤالى عن أحوالى مشفقًا علىَّ من أعباء مهنتى التى أعمل بها، يعرف أنى أعمل بالتدريس، وفى كل اتصال بيننا كان يدعونى إلى أن أشرب القهوة معه فى أتيليهه الموجود فى حلوان، الذى يمارس فيه إبداعه باحثًا عن لقمة عيشه، خاصة أن الشعر لا يطعم عصفورًا، ناهيك عن عائلة كاملة.
كان سامى الغباشى مبدعًا حقيقيًّا، كان يفضل الابتعاد عن بؤرة الأحداث ما استطاع إلى ذلك سبيلا، مكتفيًا بما يكتبه من شعر، وما تنتجه يداه من أعمال نحتية، بعد أن أيقن أن هذا هو قدر المبدع ومصيره، وأنه لا أمل فى أن يتغير الوضع الذى كان يراه متجهًا فى انحدار دائم نحو الأسوأ. لحظة أن علمتُ بخبر رحيله الذى صدمنى زرت صفحته فإذا بى أجد بوستًا كتبه قبل رحيله بساعات قليلة، كتب يقول: «من كتر ما الشرفاء بيقابلوا عثرات وإخفاقات ومكائد من (شياطين الإنس) قبل الجن، يوشك الشخص الشريف أن يفقد إيمانه بأن الخير سينتصر فى آخر الفيلم/ الحياة. ووقتها الشيطان الحقيقى بيعلن انتصاره وبيتوج أعوانه من الإنس كرعاة رسميين للمأسوف على ما وصلت إليه (الحياة). ربما يلخص هذا البوست حجم المعاناة التى كان يعيشها سامى الغباشى، الذى رغم ثراء تجربته الشعرية، ورغم ما أبدعه، إلا أنه لم يلقَ التكريم المناسب به، ويبدو أنه كان يشعر بقرب أجله فكتب قبل رحيله بعشرين يومًا تقريبًا قصيدة نشرها على صفحته سمّاها «خبر وفاة مفاجئ على الفيس بوك» يقول فيها:
عندما ينتشر خبر وفاتك على الفيس بوك.. ستجد حتى القتلة وحاملى الخناجر.. يرفرفون حول اسمك وصفحتك كعصافير.. وسيبحثون عن أى صورة معك ليكتبوا فوقها.. كم كنت جميلا جدًّا.. أيها الرجل الطيب كسنبلة.. حتى فتاتك التى تركتك فى ظلمة الفقد.. منذ ثلاثين عامًا.. ستكتب على صفحتها «وداعا يا
توأم الروح».. والمرابى الذى لجأت إليه يومًا، لإنقاذ حياة ابنتك الوحيدة من الموت.. واشترط ضعفين ليقرضك عاجلًا.. سيقيم مأتمًا فى جلسته الأسبوعية.. وسيرفع يديه عاليًا إلى السماء ليدعو لك.. وبالتأكيد لن يستجيب الله له.. عندما سينتشر خبر وفاتك على الفيس.. ستبحث حبيباتك عن أى أسود محتشم.. ليظهرن به فى الندوات.. لمدة أسبوع على الأقل.. رغم أنهن ساهمن فى جلطاتك المتكررة لكن للفقد غواية.. وللموت سحر على القلوب.. وحينها ستصبح جميلًا جدًّا.. وطيبًا كسنبلة.. أساءوا لها.. وأشعلوا القش بجوارها.
منذ سنوات كلفنى الصديق الشاعر فارس خضر بعمل حوار مع سامى الغباشى ليُنشر ضمن ملف تُعدّه عنه مجلة الشعر وقتها، وقد رأى سامى أن حوارى معه من أهم ثلاثة حوارات أجريت معه طوال مسيرته الشعرية، وظل يردد هذا حتى بعد نشر الحوار بسنوات، وقد كتبت فى مقدمة حوارى معه قائلًا: سامى الغباشى شاعر ينحت القصائد ويخطُّ أعمالاً نحتية بإبداعٍ واعٍ وراقٍ أيضًا. هو باختصار مثلما يقول عنه الناقد د.صلاح فاروق العايدى هو شاعر يثق فى نفسه ويؤمن بقدراته، هو صاحب سيرة ومسيرة شعرية تمتد فى الزمن بعمق يصل إلى بدايات الموجة الأخيرة من القصيدة العربية.
سامى الغباشى شاعر تسعينى، لتجربته الشعرية لونها الذى يخصها وحدها ولقصيدته رونقها الجمالى الذى آثر أن يصيغها عليه، من دون أن يقترب من محاكاة آخرين أو تقليدهم. إنه صوت شعرى حقق مكانةً ومكانًا شعريًّا مرموقًا على خارطة الشعر المصرى، وسألته فى الحوار عن كيف ينظر إلى القصيدة، فأجابنى يقول إن القصيدة هى كتابة يتحرر بها وفيها من كل القيود والجدران، وفيها يسيطر تمامًا على رقباء الجمجمة والمنابر والمكاتب. لذلك نجده فى الكتابة يمارس حياة صاخبة متحررة أوسع من طبيعته المتدينة، فالقصيدة بالنسبة له هى إرادة الحياة التى تشتبك بشراسة مع كل ما هو يقينى ومستقر، لذلك يستسلم لها ويحصد المشاكلات.
حين سألته عن علاقته بالنحت قال إن النحت بالنسبة له هو معركة مع الكتلة والفراغ لصالح الجمال والفكرة، وقد مارس النحت كفن تشكيلى، يشارك به فى المعارض لفترة، ولكنه رضخ لسطوة الشاعر داخله منذ البداية، فتحول النحت فى حياته إلى «مشروع تجارى لإنتاج التحف» ولكن خبرة النحت والاشتباك مع الخامات الصعبة والصبر عليها واستنطاقها أضافت الكثير لطريقة تعامله مع اللغة والتشكيل بها فى فضاء القصيدة.
فى فترة من حياته اغترب سامى الغباشى عن مصر، وعن هذه التجربة قال لى إن الغربة إحساس أصيل فى شخصيته، فقد رفض اليقين العائلى وهو فى سن السادسة عشرة، فتمرد على محاولات رسم خرائط الرأس وسافر إلى سوريا فى هذا العمر للعمل والدراسة، بحثًا عن براح يليق بمراهق مشاكس، ولذلك تجد ذلك الإحساس واضحًا فى قصائده وبين السطور. والغربة التى يقصدها سامى الغباشى هنا ليست اغترابًا عن المكان وفقط، ولكنها غربة عن الذات وفيها، وعن المحيطين بنا والمقربين، هى غربة نفسية كان يقرأ عنها عندما كان صغيرًا ولم يفهمها إلا عندما اعترك مع الحياة بتفاصيلها وتناقضاتها وفى ديوانه «وتسميهم أصدقاء» نجد ذلك واضحًا.
سامى الغباشى الشاعر المتفرد، النحات المبدع، ومن قبلهما الإنسان الطيب المحبوب من الجميع، الذى لم يكن أبدًا طرفًا فى أى معركة من المعارك التى لا تسمن ولا تغنى من جوع، غير أنه كان يتعارك من أجل أن يحظى الإنسان بمكانة تحترم آدميته، وأن يحظى المبدع بما يليق به، وأن يتم تقديره من الجميع حتى يتمكن من ممارسة حياته كإنسان يعتز بكرامته وعزة نفسه، رحل الأحد الماضى فى هدوء، وبطريقة تليق بشاعر ابن أصول حافظ على ثوبه الإنسانى من التلوث، وحفظ لردائه الإبداعى قيمته وبريستيجه الذى يفشل كثيرون فى الحفاظ عليهما، خاصة فى زمان كثر فيه المدّعون وقلَّ فيه الحقيقيون.
برحيلك يا سامى ينقص الذين أتواصل معهم واحدًا مهمًّا، كان بالنسبة لى أخًا وصديقًا ألجأ إليه لنحكى معًا ولنخفف عن أنفسنا أوجاع الحياة ومآسيها التى من المؤكد ستزداد بشراهة بعد رحيلك، يا من كنت وستظل إلى الأبد من أجمل الناس.
وهنا أتركك عزيزى القارئ مع بعض نصوص سامى الغباشى لتقرأها وبعدها تقرأ عليه الفاتحة، داعيًا الله أن يتغمده برحمته ومغفرته وأن يتقبله مع ذوى القلوب النقية الذين لم يكرهوا ولم يحقدوا ولم يحسدوا ولم يفكروا ذات يوم فى إلحاق الأذى بأحد.
■ «المَعْمَعيُّون»
عندهم دائمًا
ما يناسب الوقت
وعندكَ عزلة القروىِّ
فَدُرْ فى مدارك ما استطعتَ
وواجه ابتسامتهم بالتَّجهم
وقس بعينيكَ قاماتهم
واعوجاج ظهورهم
من كثرة الانحناء.
■ «يكفى أنهم مثلك»
وحدكَ
تعد الأصدقاء العابرين
وتمنح كل واحدٍ منهم
مدارًا فى ملكوتك الليلى
وتُقسم أينما كنت
: إنهم «طيبون» حتى النهاية
ومغتربون جدًّا مثلك
أحببتهم
وأنت لا تعرف عنهم
غير الأسماء المبتورة
وحكاياتٍ هم مروِّجوها
عن مغامرتهم التى لا تشى ملامحهم بها
والتى – جاهدًا – تصدقها
ولاهثًا تحاول أن تُصالح
بين الحكايا والوجوه.
■ «وتسميهم أصدقاء»
■إلى مكانِ ما:
ينفضنى الأصدقاء عادةً
عندما يهمُّون بمغادرة المقهى
لم يحدث ذلك مرة أو مرتين
بل كل مرة يفعلونها
ليذهبوا إلى أمكنةٍ أخرى
يستطيعون فيها
أن يقترحوا لأنفسهم مداراتٍ مثيرة..
واثقين من دعم جلسائهم
الذين بدورهم
سيقترحون مداراتٍ أكثر إثارة
واثقين
أن لهم فى العيون تَصديِقًا
وأن جلساءهم
الذين انتهوا لتوّهم من تراتيل «الأنا»
لا ينكرون الجميل
■ ■ ■
■ سيحدث ذلك بالتأكيد:
سيذهب إليهم ويترككَ وحيدًا
عندما يتأكد
أن ما لديك من بهجةٍ
أقل بكثير مما لديهم
وأنكَ- عكس ما يفعلون–
لا تهدر أسرار بيتك على طاولات المقاهى
ولا تجعل من أصدقائك أضحوكة بعد ذهابهم
لذلك سيذهب إليهم
لأنه يظلُّ ضئيلاً فى مجلسكَ
رغم أنك تحب الجميع
لكنك دائماً تنسى
وتضع مرآةً بحجم من تُجالسهم
طيلة الوقت
■ ■ ■
■ رغم أننى لست نبيًّا:
أصرُّ على محبةٍ
أمنحها للكثيرين كأنها دينٌ
ويصرون على كراهيةٍ
يلقونها على صباحاتى
علانيةً وسرًّا
فلماذا أهب محبتى دائمًا
وهم يُصرون.
■ ■ ■
■ «وحيدة فى الليل»
تتباطأ فى الليل
رهبتها ليست من عتمة هذا الشارع
ليست من خطواتى
الأبطأ من خطوتها خطوة
رهبتها من شىء يسعى فى ظلمتها
رهبتها تفرز رائحةً تعبث فى جسدى
كأصابع أعمى
تتحسس وجه عزيز عاد
كيف التفَّ الشارع؟
كيف تلعثمت قليلاً؟
ونظرت إلى الساعة حين تقابلنا
عند رصيف يصلح لقضاء الليل
كيف تخففنا من رهبتنا
حين انطفأ المصباح الأوحد فى الشارع
واشتعلت أعمدة الرغبة فينا؟
بل كيف استسلم كلٌ منا للآخر
لأغيب سنينًا فى ظلمتها
وتغيب سويعاتٍ فى ظلماتى.