رقمنة أوراق صلاح عيسى على «ذاكرة مصر المعاصرة»

رقمنة أوراق صلاح عيسى على «ذاكرة مصر المعاصرة»


يتزامن مشروع مكتبة الإسكندرية لرقمنة أوراق الكاتب الصحفى والمؤرخ صلاح عيسى مع ذكرى مرور ٧ سنوات على رحيله، وهو الذى غادر عالمنا فى ٢٥ ديسمبر ٢٠١٧. ورغم إنتاجه الفكرى والتاريخى الثرى، ونضاله السياسى، إلا أنه لم ينل ما يستحق من تكريم، ولم يحظ حتى بجائزة من جوائز الدولة. ليأتى مشروع رقمنة أوراقه من قبل مكتبة الإسكندرية بمثابة تكريم رفيع له، وهو الأول منذ وفاته.

غلاف الكتاب

صلاح عيسى أحد أبرز المؤرخين الصحفيين فى القرن العشرين، خاض رحلة حافلة بين جنبات الصحف المصرية والعربية، فكان من أبرز المدافعين عن المهنة. اهتم بتاريخ مصر، وتخصص فى كتابة التاريخ السياسى والاجتماعى المصرى بأسلوب أدبى شيق، وتنقل بين ألوان الكتابة ما بين القصة والكتابة الصحفية والتوثيق بمذاق إبداعى وأدبى. كان صلاح عيسى كاتبًا عنيدًا، يعشق التمرد، ومدافعًا جسورًا عن قضايا وطنه، ودفع ضريبة قناعاته ووطنيته، ومشاغباته مع السلطة فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى، مما دفعه إلى السجن والاعتقال أكثر من مرة. حتى إن عبد الناصر قال عنه: «هذا الولد لن يخرج من السجن وأنا على قيد الحياة». وفى عهد السادات، حل ضيفًا على المعتقل مرتين بسبب تمرده السياسى، وكان ممن تعرضوا للفصل من صحيفة «الجمهورية». ولجسارة موقفه من «كامب ديفيد»، اعتقل مرة ثالثة فى سجن القلعة فى يناير ١٩٨١ بتهمة اعتبرها عارًا على النظام، وهى «العداء لإسرائيل»، حتى كتب على جدرانه: «صلاح عيسى.. التهمة إهانة إسرائيل»، وكان أول عربى ينال هذا الشرف.

سامح فوزى

كانت مقالاته ساحة قتالية لتسجيل مواقفه إزاء الكثير من القضايا، واشتهر بكتابة مقالاته تحت عنوان «مشاغبات». كتب عن دوره فى حركة الطلاب فى نهاية الستينيات، عن مظاهرات الجامعات، وكذلك انتفاضة الخبز فى يناير ١٩٧٧ واعتقالات سبتمبر، وعن تجارب السجن، مواقفه النقابية، معاركه السياسية، مشاغباته مع السلطة، ومعاركه الصحفية مع تشريعات الصحافة. لذلك تزخر مكتبته بالعديد من المؤلفات، حيث أصدر أول كتبه «الثورة العرابية» عام ١٩٧٩، وصدر له ٢٠ كتابًا فى التاريخ والفكر السياسى والاجتماعى والأدب، منها: «مثقفون وعسكر»، «دستور فى صندوق القمامة»، «بيان مشترك ضد الزمن»، «شاعر تكدير الأمن العام»، «الثورة العرابية»، «صك المؤامرة»، «محاكمة فؤاد سراج الدين»، «السلطان». من أهم كتبه على الإطلاق هو كتابه الأشهر «حكايات من دفتر الوطن»، وهو عبارة عن حكايات مصرية مشهورة مكتوبة فى المؤلفات التاريخية أو أرشيف الجرائد والمجلات، ومنها: «حكايات زمن الجواري»، مرورًا بـ «الموت على تل العقارب»، «مغامرات عبد الله أفندى بالمر»، «البطريرك فى المنفى»، «جلاد دنشواي». يحتوى هذا الكتاب الممتع على ثلاث عشرة حكاية مثيرة، وقد كتب صلاح عيسى فى مقدمة هذا الكتاب كلمات شاعرية عن مصر، يقول فيها: «إلى مصر قضائى الذى أعانقه وقدرى الذى أحتضنه وأين يهرب المريد وشوقه قضاؤه وقلبه قدره».

أحمد زايد

من روائعه أيضًا كتاب «هوامش المقريزى.. حكايات من مصر»، الذى يعبر عن ٢٠٠ أقصوصة ممتعة يأخذنا فى رحلة مثيرة فى التاريخ المصرى حتى ثورة ١٩١٩. هذه الهوامش/الحكايات كانت تُنشر فى مساحة صغيرة فى جريدة «الجمهورية» بشكل مستمر بين ١٩ يونيو ١٩٧٢ إلى مارس ١٩٧٥ بتوقيع «المقريزي». وخلال تلك السنوات الثلاث أثارت من الضجة والجدل. فى مقدمته المطولة، يكشف صلاح عيسى بعض ما كان يجرى فى كواليس السياسة والصحافة آنذاك.

بقى القول إن صلاح السيد متولى عيسى وُلد فى ٤ أكتوبر ١٩٣٩ فى قرية بشلا التابعة لمركز ميت غمر بالدقهلية، وحصل على بكالوريوس فى الخدمة الاجتماعية عام ١٩٦١، ورأس لمدة خمس سنوات عدداً من الوحدات الاجتماعية بالريف المصرى. بدأ حياته الثقافية كاتبًا للقصة القصيرة، ثم اتجه عام ١٩٦٢ للكتابة فى التاريخ والفكر السياسى والاجتماعى. تفرغ للعمل بالصحافة منذ عام ١٩٧٢ فى جريدة «الجمهورية»، وأسَّس وشارك فى تأسيس وإدارة تحرير عدد من الصحف والمجلات منها «الكتاب»، «الثقافة الوطنية»، «الأهالى»، «اليسار»، و«الصحفيون». ورأس قبل وفاته تحرير جريدة «القاهرة». اعتُقل لأول مرة بسبب آرائه السياسية عام ١٩٦٦، وتكرر اعتقاله أو القبض عليه أو التحقيق معه أو محاكمته فى عدة سنوات ما بين ١٩٦٨ و١٩٨١، وفُصل من عمله الصحفى المصرى والعربى. وتوفى يوم ٢٥ ديسمبر ٢٠١٧.

جاء التكريم مؤخرًا من قبل مكتبة الإسكندرية، حيث أطلقت برئاسة الدكتور أحمد زايد مشروع رقمنة أوراق الكاتب الكبير صلاح عيسى، وذلك ضمن احتفالية بعنوان «أوراق صلاح عيسى فى ذاكرة مصر»، التى أقيمت بحضور عدد من الشخصيات البارزة؛ منهم سيد عبد العال، رئيس حزب التجمع وعضو مجلس الشيوخ، وأحمد شعبان، عضو مجلس الشيوخ، وضيف الشرف أمينة النقاش، الكاتبة الصحفية وزوجة الكاتب صلاح عيسى. أكد الدكتور أحمد زايد أن رقمنة أوراق الكاتب الراحل تمثل إضافة نوعية لمشروع «ذاكرة مصر المعاصرة»، الذى أُطلق عام ٢٠٠٩ لتوثيق التاريخ المصرى. وأوضح أن أرشيف الكاتب يضم نحو ٩٢ ألف وثيقة متنوعة بين المقالات والتحقيقات والصور والكتب. وأشار إلى أن إرث صلاح عيسى يمثل جزءًا مهمًا من ذاكرة الوطن ومكتبة الإسكندرية. وأضاف أن حياة صلاح عيسى تحمل العديد من الرسائل المهمة؛ منها الاجتهاد رغم التحديات، والانفتاح الثقافى، والاعتداد بالرأى، موجها الشكر لأسرة الكاتب التى أهدت هذا الكنز المعرفى إلى المكتبة.

وأكد الدكتور سامح فوزى، كبير باحثين بالمكتبة، والمشرف على مشروع «ذاكرة مصر»، أن صلاح عيسى كان كاتبًا مميزًا بأسلوبه التاريخى الفريد الذى جمع بين الدقة والسلاسة، ما جعله نموذجًا للكتابة التاريخية. كما أشاد بالحضور الكبير لكتابات عيسى فى مجال توثيق التاريخ المصرى المعاصر.

بهذه المناسبة، عقدت مكتبة الإسكندرية جلستين على هامش ندوة «أوراق صلاح عيسى فى ذاكرة مصر بمكتبة الإسكندرية». وجاءت الجلسة الأولى تحت عنوان «عرض أوراق صلاح عيسى على موقع ذاكرة مصر»، تحدث فيها أحمد حسن، أخصائى توثيق بموقع «ذاكرة مصر»، والمهندس بيتر سكر، مهندس بقطاع تكنولوجيا المعلومات، وأدارها الدكتور أحمد سمير، رئيس قطاع تكنولوجيا المعلومات بمكتبة الإسكندرية. أوضح أحمد حسن أن المكتبة تسلمت ما يزيد على ٩٢ ألف وثيقة تتضمن أهم القضايا التى شهدتها مصر، مثل الجماعات الإسلامية والحركة الشيوعية، وأهم الاغتيالات السياسية، ومحاضر التحقيق مع الشخصيات السياسية والثقافية البارزة، وما نشر فى الصحف عن المنظمات الشيوعية والتنظيمات الجهادية المتطرفة. كما تم تناول قضايا اجتماعية أخرى مثل قضية ريا وسكينة. استعرض حسن عددًا من أغلفة القضايا، ومحاضر التحقيقات، وقرارات الاتهام، والمحاكمات. كما استعرض المهندس بيتر سكر عملية رقمنة الأوراق التى مرت بـ٦ مراحل، وهى: استلام الوثائق، المعالجة، بداية التحول الرقمى من خلال مسحها ضوئيًا، إدخال البيانات والتوصيف، معالجة البيانات، وأخيرًا مرحلة النشر.

أما الجلسة الثانية، فجاءت تحت عنوان «صلاح عيسى.. مثقف من طراز فريد». تحدث فيها فريد زهران، رئيس اتحاد الناشرين المصريين، والدكتور أحمد زكريا الشلق، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، ومايسة زكى، كاتبة صحفية، وإيمان رسلان، كاتبة صحفية، وأدارها الكاتب الصحفى سيد محمود، الذى أكد أن تراث صلاح عيسى يمثل مرجعية كبيرة فى تاريخ دراسات الفكر المصرى والتاريخ السياسى. ساردًا ذكرياته مع الكاتب الراحل قائلاً: «أول كتاب أصدرته كان مهديًا إليه، وقد تعرفت عليه فى فترة مبكرة حيث لفت نظرى طريقته فى الكتابة فى جريدة «الأهالى» والمجلة الأدبية اليسارية «خطوة». ومنذ هذه اللحظة تحول صلاح عيسى إلى بوصلة وقدوة». وأشار «محمود» إلى أن صلاح عيسى لم ينل ما يستحق من تكريم ولم يحظ بجائزة من جوائز الدولة، ليكون تكريم مكتبة الإسكندرية هو الأول منذ وفاته. مشددًا على أن مؤلفات الكاتب الراحل كانت الأكثر مبيعًا فى معرض الكتاب العام الماضى، وهو ما يدل على مكانته، فهو ليس مؤرخًا من موقع هاوٍ فقط، بل من منطلق منهجى، ويكتب التاريخ بعلم ومتعة، وهو أمر نادر.

فيما عبر فريد زهران عن سعادته بالاحتفاء بصلاح عيسى وذكر فكره اليسارى، مشيرًا إلى أن علاقته به بدأت منذ الطفولة، وشهدت مراحل مختلفة وصولًا لعملهما فى مجلة «الثقافة الوطنية». كان صلاح عيسى أول من تحدث عن مصطلح «أن الدولة ترعى الثقافة ولا تمتلكها»، مشددًا على اهتمامه بإعادة إحياء كتابات صلاح عيسى، خاصة أنه كان يمتلك منهجية البحث العلمى رغم أنه غير أكاديمى، وهذا ما برز فى كتابه عن «الثورة العرابية».

بينما قال الدكتور أحمد زكريا إن شخصية صلاح عيسى ثرية، وإذا أراد أحد أن يدرس الصحافة فقط فى مسيرته، فسوف يجد مسيرة غنية لصحفى مميز. كتاباته رشيقة استمرت منذ عام ١٩٧٢ وحتى ٢٠١٧. والجانب الآخر أنه كان أديبًا مبدعًا، علاوة على كتابته النقدية بنزعة إنسانية، ومؤرخًا، إذ نشر ما يقرب من ٢٠ كتابًا، منهم ٨ كتب تاريخية أكاديمية، ومستوى آخر من كتابة التاريخ كقصة.

ومن جانبها، روت الكاتبة إيمان رسلان ذكرياتها مع الكاتب الراحل، فهو كان أستاذها الذى بدأت معه العمل الصحفى، مشددة على أنه نموذج للصحفى المتميز والوجه المصرى المثقف. ويعد ظاهرة مماثلة للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، إلا أن الأول اهتم بالحديث عن الإنسان المصرى الآخر، والبعيد عن السلطة، متمنية أن تقوم كلية الإعلام بدراسة مسيرة صلاح عيسى.

وأشارت الكاتبة مايسة زكى إلى أن تناول صلاح عيسى للتاريخ اتسم بالتنوع، واختلفت درجاته. فقد كان يمتلك مهارات بينية وزوايا متعددة للسرد القصصى، ولديه حرية فكرية وجسارة إبداعية لا تعترف بحدود، بالإضافة إلى لغة مرنة تتعامل مع أفكار إبداعية. هذا كله جعله محللًا اجتماعيًا ومؤرخًا وأديبًا. والمفارقة لديه أنه يجمع بين الاهتمام بالآنية والتاريخ معًا. فقد كان مهتمًا بالقضايا الصحفية اليومية مع الفحص والتمحيص للتاريخ.




Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *