رجل كالرحى (قصة) لــ جبار ياسين
رجل واقف ينتظر البحر. البحر كان دائمًا هنا، بينما الرجل كالرحى، قضى عمره يدور. فى دورانه رأى ممالك وجمهوريات وأقاليم بلا أسماء. رأى كثبانا كسيحة تزحف فى الصحارى، رأى جُزرا تسبح فى المحيط كسلاحف أسطورية. رأى غابات لا يتبين تحت دغلها الخيط الأبيض من الأسود. مضى بعيدا فرأى شجرة وحيدة عند ملتقى نهرين. تصورها الشجرة التى زرعها آدم حينما حل على الأرض لاجئا. التقط لها صورة خبأها بين صفحة من صفحات كتبه، ثم نسى الصورة حينما شد الرحال يوما إلى أرض أخرى.
مرت السنون، تزوج الرجل وأنجب سربا من الأطفال. داخ فى الحياة. زار أطباء وعشابين وأعطى نقودا صغيرة لمتسولين، غسل ثيابه مئات المرات، لكن السنين ظلت عالقة بها. التقى بقضاة وعلماء وراثة تحدثوا طويلا عن القوانين البشرية والطبيعية وأزليتها. التقى بنساء لا ينمن فى الليل، بل يغزلن قصصا لا تنتهى. التقى ببشر يعملون نهارا وليلا فى مصانع، مكائنها تصنع الكذب المجسم. ثم يوما، وبينما كان يسير دون هدف بمحاذاة أشجار أثل، وجد ساحلا بلا بحر، كما تخيل. وقف هناك كأنه ينتظر. هبت الريح وتطاير الرمل وترنح النورس فى طيرانه المتراجع، فتذكر صورة الشجرة. تذكر وحشة آدم قبل أن يزرع الشجرة. عاد إلى بيته وقضى سنينا يبحث عن صورة شجرة بين صفحات كتبه، تُذكره بوحشة آدم.
قيل إن الرجل يسكن على حافة البحر وهو يعتقد أنه يسكن على حافة الأرض. كتبه ملأت غرف بيته وسدت النوافذ ولم يعد الرجل يرى لا البحر ولا الأرض. حينما لم يجد الصورة، بعد هذا العناء، أخذه شوق لمنظر البحر. كان عليه أن يسافر بعيدا ليرى البحر الذى يقيم على حافته. وقف هناك ينتظر أن يأتى بحره إليه، لكن هيهات.
«٢» المنفى
وصل الغريب إلى المدينة. صلى ركعتين على العشب، ثم استغرق النظر فى خضرة الجبال وحمرة زهر السفوح وبياض جليد القمم. كانت أسوار المدينة من ذهب وبوابتها طُعّمت بالحجر الكريم. دخل من هناك بعد أن بسمل وتوكل. لم يجد حراسا ولا شرطة. كان أهل المدينة يروحون ويجيئون مبتسمين للشمس التى لا تغرب عنهم. الأسواق مفتوحة ولا باعة هناك يصرخون والمركبات تسير فى الطرقات تجرها الخيول التى لا تحمحم، بل تسير كما لو كانت فى حلم.
جاب الغريب المدينة بمقياس نهار فى مدينة لا تغيب عنها الشمس وتأتيها الأمطار كى يغدوا الأطفال مغنين أغانيهم عن المطر الحلبى الذى يجعل العذراوات يحبلن حين يمس شعورهن. المدينة مبنية بالذهب، أبواب بيوتها من خشب الصندل المطعم بالجواهر ولا ملك لها، ولا عسس ولا تجار، والنهر يجتازها من أقصاها إلى أقصاها الآخر أزرق هادئا، كبحر فى صورة. صعد الغريب سلما وأطل على المدينة فوجدها لا تنتهى عند الجبال. كانت مدينة لا متناهية، فشك الغريب فى رحلته التى قطعها بين السهول والجبال بحثا عنها.
ـ هل كانت حلما رحلتى؟، قال الغريب لنفسه وبكى على ذكريات بعيدة لم يكن متيقنا أنها ذكرياته.
عاد للأسواق بحثا عن بضاعة يجهلها. ولما لم ينظر إليه أحد شك فى وجوده ودخل مطعما. طلب كل ما أراد فاستجاب له من ظنهم خدما. شبع من الأكل والشراب وعاد للأسواق بحثا عما لا يعرفه، فلا صديق هنا ولا أهل ولا سكن.
فى الطريق أوقف رجلا وسأله عن مكان ليرتاح فيه، رغم أنه لم يكن يشعر بالتعب فى هذه المدينة التى لم يدخلها الألم بعد، فلم يجبه الرجل، بل أعاد إليه السؤال بكلمات أخرى: هل أنت غريب؟
قال الغريب: نعم، وسكت.
قال الرجل: يا غريب ما الذى أتى بك؟
لم يرد الغريب.
قال الرجل ابن المدينة: هل أنت جائع فى مدينتك التى أتيت منها؟
قال الغريب الذى انفكت عقدة لسانه: كلا.
أضاف الرجل: هل كاد العطش أن يقتلك هناك؟
قال الغريب: كلا.
قال ابن المدينة: هل طاردوك كى يقتلوك؟
رد الغريب: كلا.
فقال ابن المدينة: إذن عد من حيث أتيت. هذه المدينة ليست من طالعك، إن بقيت هنا وحيدا سترى هذا الذهب الذى بنينا مدينتنا منه ترابا. ستعطش وستجوع وستبرد وسيحل الليل عليك وحدك، فى مدينتنا التى لا تعرف الليل إلا فى أرجوزات الأسلاف وأساطيرهم. ستتذكر حياتك الماضية فى ساعات لن تنتهى وسينزف جلدك عرقا مالحا، وسيطاردك الذعر كل ليلة من لياليك التى لا نعرفها نحن وستغيب عنك شمس مدينتنا التى لم تغرب يوما. لن ترى فجرا وستموت يوما من طول الانتظار. عد يا غريب فإنك إن بقيت هنا ستُدخل إلى مدينتنا الألم الذى لا نعرف عقاقير الشفاء منه.
حين ترك الغريب المدينة لم يلتفت، فقد عرف أن ما رآه لم يره أحد غيره، ولن يراه هو نفسه مرة ثانية.