رجـب البنـا يكتب: «أوديب في الطائرة».. رؤية جديدة تصور الواقع في إطار الأسطورة
رواية الكاتب الكبير محمد سلماوى «أوديب فى الطائرة» لون جديد من الفن الروائى، تظهر فيها موهبته كروائى ومؤلف مسرحيات معروفة وفنان مولع بالفن التشكيلى.. والرواية تمزج بين التاريخ وبين الأسطورة، وبين سطورها إيحاءات وتأملات فلسفية فى الطبيعة البشرية وأحوال الناس بما فيهم من خير وشر. وتقدم أحداث 25 يناير بعيون فنان، وبأسلوب يعكس ثقافة سلماوى ودراسته الواسعة للأدب العربى والأدب الفرنسى، أسلوبها جديد فى السرد. كل كلمة فى موضعها دون زيادة، تجذبك من أول سطر، فلا تستطيع إلا أن تواصل إلى آخر سطر.
تدور أحداث الرواية فى مدينة «طيبة»، أم البلاد وأرض الخضرة والنماء، صاحبة التاريخ والمجد والجمال، يحكمها الملك أوديب الذى لم يطلب الملك ولا الجاه، ولكنه بالصدفة جاء إلى طيبة واضطر للقتال وقتل فارسا لا يعرفه، وحين دخل المدينة وجد أهلها يحتفلون به ويعتبرونه بطل الأبطال المخلّص. الصدفة ساقته إلى العرش وإلى الزواج من أرملة الملك السابق وينجب منها ابنتين، كما فى الأسطورة الإغريقية «وعاش دون أن يعلم أن الفارس الذى قتله كان والده الحقيقى الذى لم يعرفه»، لأن الذى رباه راعى غنم فى البادية كان يظن أنه والده «وأن التى تزوجها كانت أمه»، وحين يعرف هذه الحقيقة ينكرها فى البداية، ثم يستنكرها ويعانى من عذاب الضمير والإحساس بالذنب، وتسقط زوجته «أمه» مريضة لهول الصدمة وتستمر فى مرضها حتى تموت كمدا.. وبعد أن ظهرت الحقيقة تصل الأحداث إلى ذروتها ويبدأ الصراع على مستويات عديدة.
بسبب هذا الذنب حلت اللعنة على «طيبة» فأصابها الفقر والفساد وضاق العيش على أهلها فثاروا وخرجوا إلى الشوارع والميادين، يطالبون بعقاب المسؤول عن الكارثة التى حلت بهم، ويطوف بينهم «تيريسياس»، الحكيم العجوز الأعمى يصيح: يا ساكنى القصور إن عقاب الآلهة شديد فتعالوا إلى كلمة العدل.. لن ترفع اللعنة إلا بعقاب المذنب، ويصيح معه الشاب ماريوس: «يا ملوك الاستبداد القوة زائلة والملك لا يدوم». وتضج ساحة الميدان بصيحات الجموع، ويدخل الساحة عروسان قررا الاحتفال بزفافهما مع الثوار. ويختلط الفرح بصيحات الغضب.
لقد ارتكب أوديب ذنبا وتسبب فى المحنة دون أن يدرى ودون قصد. وحين تضيق الدائرة حوله وتثور عليه الجماهير وينقلب عليه أعوانه، يشعر بأنه ضحية القدر، يرى نفسه البطل الذى حقق النصر على العدو، وفى نفس الوقت يرى نفسه مذنبا، فيقع فى صراع مع أعوانه، ويعانى من صراع داخلى يمزقه بين تمسكه بالملك وبين فقدانه القدرة على الاستمرار فى الحكم بعد أن فقد كل شىء.. وأخيرا كان لابد أن يستسلم لمصيره، فيتخلى عن الحكم ويتلقى الحكم عليه بالسجن. وتحمله الطائرة إلى ساحة السجن، لكنه يرفض أن ينزل منها ويعاند بكبرياء ولا يريد أن يصدق أن يكون هذا مصيره، والطائرة ترمز إلى العرش والسلطة، وبعد أن ظل متمسكا بمقعده فى الطائرة جاء الحكيم الأعمى «تيريسياس» ليقول له: إن لم تدخل فى السجن فإلى أين ستذهب؟، هل ستهيم على وجهك فى البلاد كالمشردين، الجماهير ستقطعك إربًا، السجن هو ملجأك الوحيد، عليك أن تنصاع للقدر. عندما يشعر بأن الخناق ضاق حوله وأن انتصاراته الحربية لن تشفع له، استسلم ونزل من الطائرة «العرش» ودخل الزنزانة، وبعد بضعة أيام فارق الحياة.
فى الرواية شخصيات هى رموز للجيل الجديد، «بترو» الشاب الذى لم يحصل على الوظيفة التى يستحقها بتفوقه العلمى ليكون معيدًا، ويحصل على الوظيفة زميل أقل كفاءة له ظهر يسانده فى عالم تحكمه القوة وليس الحق أو العدل، ومع ذلك يظل محتفظًا بروحه العالية، يشارك فى الثورة ويحمل الكاميرا ليسجل تفاصيل أحداثها هو وخطيبته «هيباتا» التى تظل وفية له وتواصل حمل الكاميرا وتصوير الأحداث عندما اعتقل ماريو، والكاميرا هنا هى التاريخ الذى يسجل ولا يغفل ويقف أمام محاولات تزييف الحقيقة.
الحوار فى الرواية يذكرنا بموهبة سلماوى المسرحية، ففيها مشاهد حية تجعلك تعيش اللحظة وتسمع وترى الحوار والمتحاورين، وخاصة مشهد لقاء الملك أوديب مع أعوانه حين ينقلبوا عليه ومع العجوز الأعمى «تيريسياس»، يأمره الملك بالسكوت فلا يسكت ويقول له: ليس لديك ما يلزمنى بالسكوت، والساكت عن الحق شيطان أخرس.. الحوار فى الرواية يغنى عن السرد، خاصة فى لقاء الملك مع أعوانه وهم يواجهونه بالحقيقة وهو يرفض ويقاوم ويحاول تبرئة نفسه، فيكشف فسادهم ويصيح فيهم: بسياساتكم الفاشلة وسرقاتكم الفاضحة أحجبتم غضب الجماهير، والآن تريدون إلقاء اللوم علىّ وحدى.. لقد أخطأت بالسكوت على جرائمكم. ثم لا يجد إلا الاستسلام بعد أن وجد نفسه وحيدًا.. هكذا يكون تأثير السلطة على الوعى فيغيب عن رؤية الحقيقة.
وتصل التراجيديا إلى قمتها حين يشعر أوديب بالحصار فيصيح «أنا أوديب بطل الأبطال، هأنذا أتنازل عن العرش، فماذا يراد بى بعد ذلك؟»، وبعد الرفض والمقاومة ينزل أوديب فى النهاية من الطائرة ليدخل الزنزانة وبعد أيام قليلة يموت.
يقول سلماوى، فى حديث صحفى، إن روايته محاولة جديدة لتفسير الحاضر فى ضوء الماضى، ويشير إلى واقعة رفض مبارك النزول من الطائرة، فاضطر قائد السجن إلى إحضار ولديه من سجنهما لإقناعه بالنزول، ويقول إن 25 يناير أنهت رواية فى حياتنا لتبدأ رواية أخرى تعرف باسم الجمهورية الجديدة.. ويقول إنه يكتب إبداعا ولا يكتب تاريخا، ويفتح الطريق بذلك لرؤى مختلفة كما يفتح الطريق للمؤرخين ليكتبوا التاريخ بمنهجهم العلمى وللفنان أن يكتبها برؤيته.
وقبل هذه الرواية صدر لسلماوى ثلاثين كتابًا بين مسرحيات وروايات ومجموعات قصصية، ورصيد كبير فى الصحافة، أبرز ما فيه أنه مؤسس ورئيس تحرير «الأهرام إبدو» أول صحيفة مصرية تصدر باللغة الفرنسية، وسجله كبير حين كان رئيس اتحاد الكتاب وأمين عام اتحاد الأدباء والكتاب العرب وأمين عام اتحاد كتاب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وبعد حصوله على العديد من الجوائز توجت مسيرته بحصوله على جائزة النيل فى الأدب، وهى أرفع جائزة تمنحها مصر للمبدعين.
ويبقى من الرواية أن «أوديب» كان مذنبًا ولكن لم يكن مجرمًا.