ذاكرة الكتب.. نصر أكتوبر.. «هيكل» يكشف أسرار السلاح والسياسة فى الحرب
لذكرى نصر أكتوبر هذا العام مذاق مختلف.. حيث مر نصف قرن على هذه الملحمة التاريخية العسكرية المضيئة في تاريخ مصر.. ومن أهم من كتب عن هذا النصر الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل.
فالأستاذ الذي كان قريبا من دوائر صنع القرار، وكان شاهدًا على الأحداث بل تستطيع أن تعتبره مشاركا في صنع بعض القرارات المهمة والخطيرة لذا تظل كتبه التي قدمها للمكتبة العربية شاهدة على عصر كامل وهى الأقرب إلى الحقيقة بشكل من الأشكال.
ومنها كتابه «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» الذي يتناول فيه اللحظات الحرجة سياسيا وعسكريا من لحظة وفاة عبدالناصر وتولى السادات المهام الجسيمة للتحضير لمعركة الحسم. كما يتناول الكتاب بالوثائق كواليس السياسة الخفية لإحلال السلام قدر المستطاع، بدون اللجوء للحرب، بالإضافة إلى المشاكل مع الاتحاد السوفيتى.
يحكى الأستاذ في مقدمة الكتاب أنه حصل على بعض هذه الوثائق من الرئيس الراحل محمد أنور السادات في أعقاب الواقعة الشهيرة والمعروفة بمراكز القوى، وبعضها عثر عليها بطريقة أو بأخرى وهى عبارة عن مراسلات دارت بين الرئيس السادات ووزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية هنرى كيسنجر خلال عام كامل، وهو عام ٧٣ الذي شهد حرب أكتوبر. ويسرد هيكل في كتابه بعض التفاصيل عن هذه الأيام:
في صباح 6 أكتوبر عرف الرئيس السادات أن إسرائيل قد «عرفت» بنية مصر للحرب، وكان واضحًا بالنسبة له أنه حقق سبقًا على الأرض. ولكن الخطر الأكبر خلال الساعات القادمة، وحتى ساعة الصفر هو أن ينقض من الجو على شكل محاولة ضربة إجهاض يقوم بها سلاح الطيران الإسرائيلى.. وكان هذا الهاجس همًا ثقيلًا على فكره وأعصابه- ولم يكن يعرف أن هذا الاحتمال قد استبعد، وأن هذه الضربة الجوية الوقائية لن تقع، لأن مجرى الحوادث- في هذه الساعات- كان يتخذ مسارًا آخر في تل أبيب وفى واشنطن. فيما بين الساعة الثامنة وحتى الساعة العاشرة إلا الربع من صباح يوم السبت 6 أكتوبر- كان الرئيس «السادات» في قصر الطاهرة وليس في رأسه إلا سؤال واحد: هل توجه إسرائيل ضربة إجهاض بالطيران ضد الجبهة المصرية قبل الموعد المقرر لبدء الهجوم بقصد تشتيت وبعثرة صفوفه؟ في الساعة الواحدة من بعد ظهر يوم السبت 6 أكتوبر وصل الرئيس «أنور السادات» إلى المركز رقم «10»- مقر القيادة الرئيسى للعمليات. وقد توجه فور وصوله ومعه الفريق أول «أحمد إسماعيل على» إلى مكتب القائد العام- وهناك قضى بضع دقائق ألقى فيها نظرة على خرائط التخطيط.
وفى الساعة الثانية بعد الظهر كانت الأنظار في القاعة كلها متجهة إلى الجزء الخاص بالقوات الجوية. وكانت الإشارات قد وصلت بأن قوات الضربة الجوية الأولى، وقوامها مائتا طائرة، قد عبرت على ارتفاع منخفض فوق قناة السويس قاصدة تنفيذ المهمة الأولى في العملية. وفى الساعة الرابعة والنصف كان حجم القوات المصرية على الضفة الشرقية قد وصل إلى 1500 ضابط و22000 جندى.
ويضيف هيكل في كتابه: عندما حل منتصف الليل تمامًا كانت هناك خمس فرق كاملة من المشاة والمدرعات على الضفة الشرقية لقناة السويس، وكانت معظم مواقع خط بارليف الحصينة قد حوصرت، ونصفها تم اقتحامه.
كان الرئيس «السادات» في الساعة السابعة تمامًا، ومعه كل الذين أتاحت ظروفهم أن يتواجدوا في هذه القاعة المجيدة- في حالة من النشوة لا تكاد تصدق. وقد تأكدوا جميعًا أن أخطر عملية في الحرب كانوا يتحسبون لخسائرها قد تمت بنجاح فاق خيالهم. وفى الساعة السابعة مساء، كان الرئيس «السادات» قد اطمأن بأكثر مما راوده في أوسع أحلامه جموحًا- إلى أن هناك شيئًا عظيمًا تم تحقيقه.
في قصر الطاهرة كانت هناك مكالمات تليفونية عديدة من كثيرين في العالم العربى وصل إلى أسماعهم ما حدث، وأرادوا أن يتصلوا به تهنئة وتبريكا، وقد أخذ الرئيس «السادات» بنفسه بعضها. وفى الساعة الثامنة مساء كان «محمد حسنين هيكل» في قصر الطاهرة لموعده مع الرئيس «أنور السادات»، وقد لاحظ عند دخوله إلى الصالون الذي كان يجلس فيه الرئيس «أنور السادات» ويتلقى منه ما يختار من الاتصالات التليفونية- أن هناك مجموعة من رجال التليفزيون والإذاعة بميكروفوناتهم وعدساتهم. وعندما دخل «هيكل» على الرئيس «السادات» كان باديًا أن موجة من الفرح تتراقص بصالون القصر كله.
وفى حين راح «هيكل» يسأل عن المزيد من التفصيلات- فإن الرئيس «السادات» كان له مطلب عاجل، هو إعداد «كلمة قصيرة» ولو من عشرة سطور تقول للناس ما معناه «أن حرب الساعات الست قد تحققت». ولكن هيكل أشار بعدم أهمية ذلك الآن.
وفى ليلة 6-7 أكتوبر، كان «أنور السادات» في لحظة فاصلة وفارقة من حياته شكلت- على وجه القطع- مفترق طرق. قبلها كان واحدًا من زعماء العالم العربى مثل غيره كثيرين وبعدها أصبح نجمًا يلمع في آفق عالٍ وشاهق. وقبلها فإن رجلًا مثل «هنرى كيسنجر»- كان يتهرب منه ويصفه بأنه «بهلوان سياسى»- وبعدها فإن لم يعد في مقدور أحد- بمن فيهم «هنرى كيسنجر»- إلا أن يعترف له بأنه «داهية سياسى».
وقبلها لم يكن في تاريخ العرب الحديث انتصار عسكرى واضح- وبعدها فإنه سجل في تاريخ العرب نصرًا عسكريًا على مستوى لم يكن ينتظره أحد. وإنما كان شاغله ما يراه أمام عينيه: فلقد تم العبور العظيم- وهو الآخر عبر من مكان إلى مكان، ومن ضفة إلى ضفة، ومن حال إلى حال. ولقد اختلط العبوران معًا، فأصبح عبور القوات عبوره.. وعبوره عبور القوات. وفى واقع الطبيعة البشرية فإن ذلك كان محتملًا.. وربما كان مفهومًا.