د. وسام علي الخالدي تكتب: «أيام بعيدة جدًا».. رواية الحنين النابض ونبوءة الضياع

د. وسام علي الخالدي تكتب: «أيام بعيدة جدًا».. رواية الحنين النابض ونبوءة الضياع


فى رواية «أيام بعيدة جدًا»، لا يكتب أحمد طايل سردًا عابرًا، بل يطرز وجع الزمن بخيوط الحنين، ويستخرج من تربة الذاكرة رائحة الوطن، الطفولة، والخذلان الأول. هى ليست حكاية تُروى، بل نداء داخلى يتردد فى أروقة النفس، بحثًا عن المعنى فى غبار الأيام.

إذ ينسج طايل روايته بلغة شاعرية رقيقة، تأخذ القارئ فى مدارات الزمن، حيث يصبح الماضى وطنًا بديلًا، والمكان حنينًا متحولًا، والوجوه مرايا لفقد لا يُعالج. السرد هنا لا يسير بخطٍّ مستقيم، بل يتلوى كما تتلوى الذاكرة، فتعيد تشكيل الوقائع كما تشتهيها العاطفة، لا كما يفرضها المنطق.

أما الطفولة فى الرواية، فليست براءة، بل جرحًا يتعلم كيف يبتسم. والمدرسة ليست مؤسسة تعليمية، بل قنطرة نحو القسوة، والمجتمع يبدو ككائنٍ عملاق، يطحن الأرواح الصغيرة دون اكتراث. وبين كل سطر وسطر، تنبعث شهقة سردية، كأن الكاتب يهمس: «كل ما مرّ، لم يمرّ فعلًا، بل ترك فى القلب علامات تشبه الشروخ المقدسة».

ونجد الشخصيات فى الرواية لا تُرسم بألوانٍ صريحة، بل بضبابٍ داخليّ، يجعلها أشبه بأطياف، تتجول فى المشهد لتُخبر القارئ عن غربة الإنسان فى مجتمعه، وعن محاولة فهم الهوية فى عالمٍ لا يُنصت.

أما الزمن، فهو البطل الخفى، يتكرر، ينكسر، يتهامس مع الأماكن، ويحوّل الحاضر إلى مرآة مشوشة للماضى. وكأن الرواية تقول لنا: «نحن نعيش أكثر مما نتذكر، ونتألم أكثر مما نبوح».

ففى «أيام بعيدة جدًا»، ينجح أحمد طايل فى تقديم عمل أدبى يحمل روح الشعر وجرح الإنسان، يكتب الرواية وكأنها مرثية لجيلٍ بأكمله، ويعبر من ضيق التجربة إلى رحابة التأمل، متكئًا على لغة حساسة تلتقط التفاصيل الصغيرة، وتُضفى على اليوميّ طابعًا أسطوريًا.

لغة الرواية ليست زينة شكلية، بل هى نبض حى، يوازى الشخصيات ويتسلل إلى القارئ برقة حادة كحافة حلم مكسور. يتماهى طايل مع لغته كما يتماهى العاشق مع غيابه، فالكلمات لا تتساقط عبثًا، بل تُسكب كما يُسكب الماء على تراب عطشان. كل جملة فى «أيام بعيدة جدًا» تحمل أثرًا ليدٍ داخليةٍ تنقّب فى طبقات الذات، تلامس قشور الطفولة، وتنبش أسئلةً لا إجابات لها.

أحمد طايل

إن الزمن فى الرواية ليس مسارًا خطيًا، بل دوامة عاطفية، تتقاذف القارئ بين الذاكرة والحاضر، بين ما كان وما لن يعود، بين الأمل المبتور واليأس الذى يبتسم على استحياء. وكأن أحمد طايل يعيد خلق الزمن على طريقته، لا ليُعيد الحكاية، بل ليقول إن الحكاية لا تنتهى، وإن الوجع لا يخفت مهما تقدم الوقت. الشخصيات تمضى لا بحثًا عن خلاص، بل عن صوتٍ يشبهها فى متاهة الحياة، وكل لقاء فيها مرآة لخذلان سابق أو خيبة مؤجلة.

وفى خلفية السرد، هناك دائمًا ظلّ لوطنٍ يتوارى، لطفولةٍ تسير حافيةً فوق شوك الوعى، ولمجتمعٍ يرسم الندوب على ظهر من لا يملك سيفًا. السارد يروى وكأنه يستنطق الحجر، وكأنّه يريد أن يقول: لست وحدى، فكلُّنا نحمل هذه الأيام البعيدة، وكلُّنا نبحث عن ذواتنا فى مرايا قديمة غطاها الغبار.

وما يميز الرواية ليس الحكاية بقدر ما هو حسّها الداخلى، هذا الانفعال الصامت الذى يختبئ تحت الكلمات، ويفاجئ القارئ بنبضة وجع مفاجئة فى منتصف سطر هادئ. هنا، لا شىء يُقال عبثًا، وكل تفصيل مهما بدا صغيرًا، هو بمثابة خيط يشدّ نسيج الرواية نحو التماسك والتوهج.

إن رواية «أيام بعيدة جدًا» ليست مجرد استعادة لذاكرة فردية، بل مرآة لوجعٍ جمعى، صوتٌ مأزوم لجيلٍ يقف على حافة الأسئلة الوجودية، يتأمل الهشاشة، ويكتب نفسه كى لا يتبعثر. إنها رواية من النوع الذى لا يُقرأ مرة واحدة، بل يُعاد تأمله، كما يُعاد تأمل الغروب حين تختلط فيه ألوان الرحيل ببقايا الضوء.

بهذه الرواية، يثبت أحمد طايل أنه لا يكتب لمجرد القص، بل يمارس فعلًا وجوديًا يعيد به ترتيب الداخل المبعثر، ويمنح اللغة سلطة البوح والنجاة. «أيام بعيدة جدًا» ليست مجرد عمل سردى، بل هى طقس تطهّر، تتداخل فيه الذاكرة مع الحلم، والواقع مع الأسطورة الشخصية، لتُنتج نصًا هادئًا فى سرده، لكنه بالغ العصف فى أثره.

وتُجسد الرواية جمالية الألم الإنسانى حين يُصاغ بلغة حية، محمّلة بإيقاع داخلى لا يتهاون مع الافتعال، ولا يتصالح مع السطحية. إنها مرآة داخلية صادقة، تطرح سؤال الهوية والطفولة والانتماء من دون شعارات، بل من قلب التجربة ومن عمق الإحساس.

بهذا، تُعَدّ «أيام بعيدة جدًا» لبنة مضيئة فى سرديات الوجدان العربى، حيث الأدب لا يكتفى بأن يعكس الواقع، بل يفسّره، ويواجهه، وربما – فى لحظات صفاء– يصالحنا معه، ولو قليلًا.

تتبدى رواية «أيام بعيدة جدًا» لأحمد طايل كنصٍّ يتجاوز الحكاية إلى منطقة أكثر عمقًا، حيث تذوب الحدود بين السرد والشعر، بين الذاكرة والواقع، فى توليفة لغوية شديدة الحساسية. لا يكتب طايل الرواية كمن يروى، بل كمن ينقّب فى جسد الزمن عن لحظة مفقودة، عن شظايا معنى تكسّرت بين الطفولة والانكسار الأول. هى رواية لا تُبنى على الحدث بل على الإحساس، حيث تشكّل اللغة بنيتها العميقة، وتتحول الكلمات إلى أدوات حفرٍ فى باطن الإنسان.

غلاف الكتاب

فى هذا النص، الزمن لا يتحرك بخط مستقيم، بل يدور فى دوائر مغلقة كأساورِ ذاكرةٍ لا تنكسر. تتهشم اللحظات وتعود، لا بوصفها أحداثًا، بل كنبض داخلى، يعلو ويخفت، لكنه لا يختفى. يستحضر الكاتب الطفولة لا باعتبارها حنينًا بريئًا، بل كمرحلة جريحة، ملبدة بالخذلان، لا تفتأ تلقى بظلالها على النضج الآتى. المدرسة لا تظهر كمكانٍ للتعلم، بل كبؤرة أولى للقسوة، كتمرين مبكر على الخضوع، والمجتمع يتمثل كجدارٍ أخرس، يعيد إنتاج الألم ببطء وصرامة.

اللغة فى الرواية ليست مجرد وعاء للسرد، بل هى الفعل الحقيقى الذى ينحت المشهد، ويصوّر الداخل بكثافة شفيفة. لا شىء يُقال هنا بشكل مباشر، بل تتوزع المعانى على ظلال الكلمات، فى استعاراتٍ تنبض بالحياة، وتُعبر عن هشاشة الإنسان فى مواجهة عالم لا يعترف بالهشاشة. الشخصيات لا تتحدد بخطوط واضحة، بل تظهر كأطيافٍ تنبعث من الألم، وتعود إليه، فى دورانٍ شبيه بالحلم، أو بالكوابيس التى لا تجد منفذًا.

الحكاية تفيض بصمتٍ داخلى، بانفعالٍ لا يُعلِن عن نفسه، لكنه يهزّ القارئ من العمق. لا شىء يُروى لذاته، بل لِما يخبئه من مشاعر، من خيبات، من محاولات للفهم أو للمصالحة مع الذات. الوطن فى خلفية الرواية ليس مكانًا جغرافيًا بقدر ما هو جرحٌ مقيم، يتقاطع مع الطفولة، ويتحول إلى رمزٍ لفقد لا يُعوض. وحتى حين يُذكَر الوطن، لا يكون ذلك بوصفه مساحة مألوفة، بل بوصفه ذكرى مواربة، تحضر فى اللاوعى أكثر مما تحضر فى السرد.

أما طايل، فلا يقود القارئ إلى نهاية، بل يفتح أمامه دوائر تأمل، ويضعه فى مواجهة مرآة الذات. هو لا يطمئن قارئه، بل يدفعه إلى التيه الجميل، إلى التساؤل المؤلم، إلى الإصغاء للصمت الذى تمتلئ به الصفحات. النص يضجّ بالغياب، بالحضور الناقص، بالحنين الذى لا يطلب العودة بقدرِ ما يطلب الفهم.

رواية «أيام بعيدة جدًا» ليست مجرد سردٍ لتجربة، بل هى إعادة صياغة للحياة من وجهة نظر القلب المكلوم. إنها عملٌ يحفر فى العمق، يرصد التفاصيل التى لا تُرى، ويحوّلها إلى مشهدٍ إنسانى نابض، لا يُنسى. هى من تلك النصوص التى لا تُقرأ من الخارج، بل تُعاش من الداخل، وتترك أثرها كما يترك الحلم أثره فى الصباح: غامضًا، موجعًا، وجميلًا فى آن.

وتستمر الرواية فى بسط رُؤاها كأنها أنينٌ مكتوم، يتسلل من بين السطور، ليوقِظ فى القارئ أسئلته الخاصة، فيتماهى مع الألم، لا بوصفه مأساةً شخصيةً فقط، بل ككيانٍ وجوديٍّ يعبُر الأزمنة والوجوه. إن الحزن فى هذا النص ليس حالة عابرة، بل هو بنية داخلية للنص، يتكاثر ويتفرّع، ويأخذ شكلًا شعريًا فى بعض المقاطع، حيث تصير اللغة بمثابة عزاءٍ لما لا يُعزّى، وتتحول الرواية إلى مرثية جماعية لزمنٍ ضائع، ولأرواحٍ صقلها الوجع.

تنجح الرواية فى خلق مسافة بين الذات الساردة والعالم الخارجى، مسافة تُبقى البطل معلقًا بين الانتماء والاغتراب، بين الحضور والتلاشى، حيث لا يملك خلاصًا حقيقيًا سوى بالكلمة، بالكشف، وبالنبش المستمر فى الذاكرة. وعلى الرغم من هدوء اللغة، إلا أن الرواية تملك طاقة كامنة، تشبهُ النارَ التى تستعِر تحت الرماد، وتفاجئ القارئ أحيانًا بجملٍ تختزل مأساة جيلٍ كامل فى سطرٍ واحد، أو نظرةٍ شاحبة، أو بموقفٍ بسيطٍ، لكنه عميقُ الدلالةِ.

ومن خلال هذا التشظى السرديّ المقصود، تتجلى الرواية كعملٍ يرفض الاصطفاف مع النمطية، ويمنح القارئ تجربة قرائية تستدعى الحضور الكامل، والإنصات لما لا يُقال بقدر ما يُقال. إنها رواية تعتمد على الإيحاء، لا التصريحَ، على التلميح لا المباشرة، وتُعوّل على وعى المتلقى فى مَلْءِ الفراغاتِ، واستعادة المعانى المختبئة بين السطور.

وفى النهاية، لا تغلق الرواية أبوابها على يقين، بل تترك كل شىء معلقًا: المعنى، الخلاص، وحتى الذاكرة نفسها، كأنها تسأل القارئ: «هل تذكر حقًا ما عشته، أم أنك فقط تحلم أنك تتذكر؟» هذا السؤال المراوغ، الذى يدور بين الحنين والنسيان، هو ما يمنح «أيام بعيدة جدًا» فرادتها، ويجعلها نصًا يترك أثرًا لا يُمحى، ويفتحُ أفقًا رحبًا للتأمُّلِ فى هشاشتنا البشرية، وفى قدرة الأدب على ترميم الكسور الخفية فى أرواحنا.



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *