د. منال رضوان تكتب: بهاء طاهر العرفانى الذى انطلق إلى نقطة النور

د. منال رضوان تكتب: بهاء طاهر العرفانى الذى انطلق إلى نقطة النور


«نقطة النور» هى رواية الروائى القدير بهاء طاهر الذى رحل عن عالمنا قبل أيام قليلة عن عمر ناهز ٨٧ عامًا، صدرت الرواية فى طبعتها الأولى فى العام ٢٠٠١.

وتدور أحداثها حول الجد توفيق «الباشكاتب» الذى توفيت زوجته قبل أعوام ويعيش بصحبة ابنه «شعبان» وحفيديه «سالم وفوزية»، وتقوم الأخيرة بمهام ربة المنزل بعد وفاة أمها؛ إذ تشرف على إعداد الطعام والعناية بسالم الذى يصغرها بأربعة أعوام، وتعد شخصية «الباشكاتب توفيق» أو الجد بمثابة الشخصية المحورية التى تدور الأحداث حولها، وتتكشف الصراعات فيما بين الأجيال من جانب وبين الطبائع البشرية من جانب آخر، بيد أن الرواية لا تعد من قبيل روايات صراع الأجيال بالمعنى الدلالى الحرفى؛ لكنها تأخذ عدة مسارات تعتبر أكثر شمولًا؛ فهى ترنو فى فكرتها الرئيسة إلى النور وما يرمز إليه وفق الغنوصية أو العرفانية التى تتشبع روح الرواية بها.

فمنذ اختيار العنوان الدال، والذى يمثل هنا خطوة إجرائية، تعد مفتاح الشفرة لتأهيل القارئ ضمنيًا للمحتوى، حيث يتمكن معه من قراءة النص، وفهم الدلالات المقصودة سواء الواضحة أو المستترة؛ لذا فقد جاء العنوان من كلمتين بما يمثله النور ورمزه العرفانى لدى جمهور الصوفية وأتباع المذاهب الباطنية، بينما مهد السبيل لذلك، العنوان فى شقه الأول ودلالة لفظة (نقطة) وهى العلامة القاطعة للفصل بين الأشياء أو وقفها..

بهاء طاهر – صورة أرشيفية

وقد أوضح بهاء طاهر فى تذييل روايته، أنه اعتمد فى كتابتها على كتب صوفية كالمخاطبات للنفرى والكنز فى المسائل الصوفية، كما افتتح المشهد السردى بقول:

قال أستاذنا الحكيم:

– الناس أجناس والنفوس لباس، ومن تلبس نفسًا من غير جنسه وقع فى الالتباس.

فسألناه:

– يا معلمنا، فهل النفس قناع نرتديه إن أحببناه وإن كرهنا نبذناه.

– أو لم أقل لكم من تقنع هلك.

قلنا:

– فمن ينجو يا معلمنا؟

أطرق متأملًا ثم رفع رأسه يجول فينا ببصره وقال فى بطء:

– يا أبنائى وأحبائى، أفنيت العمر فى البحث والترحال، فما عرفت إلا أن الجواب هو السؤال.

إذن، فمنذ مرحلة الإعداد وقبل اختمار الفكرة، قرر الكاتب أن يغوص فى بحر العوالم الصوفية، وأن تتنسم روايته شذاها؛ كما نجده قد اختار المكان وهو حى السيدة زينب، وفى إشارة صريحة إلى صاحب إحدى أشهر الروايات التى كان هذا المكان ذاته بطلها الأول، جاء الإهداء إلى يحيى حقى،

فكتب طاهر:

فى ذكرى مولد الكاتب والإنسان الكبير يحيى حقى..

رحمه الله

أتنسم عطر الأحباب!

٧ يناير ٢٠٠١.

ومن الملاحظ فى الإهداء أن الكاتب قرر أن يقدم لنا الكتالوج لما سيكتب، فعند قراءة هذا العمل لا يمكن بحال تصور أنه رواية كتبت حديثًا؛ إذ إن الأسلوب المتبع فى الكتابة والأماكن والشخوص والأحداث، يمكنك أن نعتبرها الامتداد الطبيعى لذلك اللون من السرد الاجتماعى المستند إلى المكان والتغييرات التى تطرأ عليه وانعكاساتها على الأبطال، ولوعى وحس شديدين تميز بهما بهاء طاهر فى كتاباته بوجه عام، والاهتمام بدلالة المكان تحديدًا وتحرك الأشخاص وكأنهم بداخل (بلاتوه سينمائى)؛ أدرك أن السرد المباشر واتباع أسلوب الرواى العليم وفق النمط المتعارف عليه قد يمثل ردة أدبية لن تحسب له بحال من الأحوال، خاصة مع تنامى تيارات حداثية قبل سنوات.

قد أغفلت اعتماد تلك التقنية كتقنية رئيسة يتم الكتابة وفق آلياتها، ولذا فقد اعتمد الكاتب على التقطيع الزمنى للأحداث للخروج من دائرة الملل، ونجح عبر مشاهد الاسترجاع والتى يقص فيها الجد على حفيده صلته بصديقه أو مرشده الروحى السنانيرى، أو زواجه من جدة سالم، أو التى يتدخل فيها الراوى العليم لذكر حادثة أو سرد عدة وقائع، نجح طاهر أن يخرج من دائرة الارتداد إلى ماضٍ، استرجاعه بصورته القديمة لن يحسب لصالحه بحال:

فزمن الحكاية من الواضح أنه وقع عقب انتهاء حرب السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، بينما تتداخل الأحداث الواقعة فى مراحل زمنية سابقة عبر الاستدعاء؛ فعلى سبيل المثال.. عقب تعرف القارئ إلى عائلة الباشكاتب، نجد أن قصة زواجه من سمية – الجدة – تمت الإشارة إليها عقب عدة صفحات من الرواية:

(كان توفيق أفندى قد انتقل من أسيوط كاتبًا فى محكمة المنصورة ورأى سمية وهى تتردد مع والدتها على المحكمة فأحبها من أول نظرة، كانت بيضاء وممتلئة امتلاء حسنًا، ولم يهتم بأنها تصغره كثيرًا فى السن أو بأنها لم تتجاوز السادسة عشرة، ففى ذلك الوقت فى مطلع الثلاثينيات…)، فذلك التقطيع أو التشظى الذى ظهر على طول السرد والانتقال بين أكثر من زمن كسر- ولا شك- من رتابة سير الأحداث.

وفى سياق بعيد عن النزعة الصوفية، يمكن تلقى هذه الرواية واعتبارها من الأعمال التى تناقش التصدع الحاصل فى العلاقات الاجتماعية عقب تحولات سياسية وأيديولوجية متلاحقة؛ فعمل طاهر على استخدام الترميز فى أبهى صوره، فتصدع البيت الذى يسكنه الباشكاتب، والشرخ العظيم فى جداره، ومحاولته ترميمه والتمسك بسكناه حتى الرمق الأخير يدل على توصيف لآفات اجتماعية ظهرت فى المجتمع المصرى، ففى سياق القص الاجتماعى، نجد أن الجد يمثل الأصالة والفطرة، فهو يؤمن بأن مرشده من أهل الخطوة وعندما يمرض الحفيد يحاول أن يعالجه عن طريق الرقية والبخور، ذلك الجد هو ذاته الذى يتلعثم مع أول مواجهة منطقية مع حفيده، عندما سأله عن كيفية وجود الصديق (أبو خطوة) فى مكانين، فأدهشته حصافة الصغير لكنه لم ينكر هذه المرويات.

غلاف الرواية

بل آثر ألا يتكلم فى روحانيات قد لا يستوعبها حفيده، هذه الشخصية الطيبة تعلم مصير الإنسان وفق معطيات دينية نشأت عليها، وأن الحياة القصيرة على الأرض ستنتهى إلى النور، لذلك كانت حياته سلسة هادئة راضية، بينما ظهر (شعبان) على العكس من أبيه، فهو يقوم بأداء الفرائض بشكل غير منتظم، ولم يحقق التفوق العلمى المطلوب، ولم يحتفظ بعلاقة ود مع جيرانه، فمثل شعبان الانعزال والتخبط والاضطراب وبداية التخلى عن مسؤوليات واجبة عليه، وأهمها تجاه زوجته التى أهمل فى علاجها من نزف أصابها حتى ماتت، أو تجاه امتداده الطبيعى المتمثل فى ولده سالم؛ فعندما مرض الطفل وأخذ فى الشتم والسب واللعن، قام بأخذه إلى الطبيب:

(سأله الطبيب إن كان مستواه الدراسى قد تأثر بعد هذه النوبات فقال شعبان إن جده الذى يشرف على دراسته، لم يلاحظ أن مستواه تغير، كما أنهم لم يتلقوا أى شكوى من المدرسة.

سأله أيضًا إن كان قد لاحظ عليه أى شىء غير عادى قبل هذه النوبات أو بعدها. هل تصيبه حالة من التشنج مثلا أو الإغماء؟ لم يُلَاحَظ شيئًا من ذلك ولكن أخته تقول إنه تأتيه أحلام وكوابيس فى الليل.

ابتسم الطبيب: أخته تقول وجده يذاكر له. أنا أسألك أنت!

هو. لم يستطع أن يضيف شيئًا غير أنه قال إن عينى سالم كانتا تغميان أثناء النوبة).

فذلك النكوص الذى مثله شعبان أو جيل بأكمله- إن اتبعنا نظرة شمولية- قد جعله يتواكل على أبيه فى كل أمور حياته، مكتفيا بدكان تجارى لا يحتاج منه الجهد أو المثابرة فى السعى والتحقق.

بينما ظهرت شخصية فراج زوج فوزية، وهو شخص اعتنق الحلم الوليد عقب الانتصار، وبنى حياته على حجم الوعود بمستقبل واعد ينتظره حين يسافر إلى ألمانيا الشرقية، ويعمل فى أكبر مصانعها ويحصد الأموال عن طريق الانفتاح الصناعى الذى تنتظر الدولة تحقيقه، وهو الحلم الذى تبدد بمرور الوقت؛ لتصف فوزية نفسها (بالعبط) إذ صدقت هذا الكلام، وبمرور الأيام وافقها فراج القول، حتى قال: لا حل غير الدكاكين!.

(الناس يفكرون فى طريقة تزيد من دخلهم) وهى إشارة واضحة لم تعد تحتاج الإيضاح أكثر من ذلك للدلالة على أوضاع صارت الحال إليها عقب السبعينيات من القرن الماضى.

كما يظهر تأكيد بهاء طاهر على خصوصية ذلك العمل، من حيث اتباعه نهج الكتابة التى تقلص فيها خط التجديد الذهنى والابتعاد عن التجريب أو انحسار الأنماط السردية الحداثية؛ بل جاءت الكتابة هادئة سلسة فى تناغم بين الفكرة والطرح، كما تم الانتقال الزمكانى فيما بين الحارة والجامعة بشكل هادئ من خلال فصلين أو قسمين، كما أطلق الكاتب عليها، القسم الأول بعنوان »سالم« والذى انتهى بدخوله إلى الجامعة وتعرفه إلى لبنى، التى وسم القسم الثانى باسمها، هذه الفتاة الثرية التى تنحدر من أسرة مفككة وتحيا بعد انفصال والديها بصحبة أبيها ومربيتها.

ولكن سالم يعتقد دومًا بأنهما لا يشبهان بعضهما البعض؛ فهى تتقن الفرنسية، وبعيدة كل البعد عن أجواء الحارة التى عاش عمره بين أزقتها، وعلى الرغم من ذلك استطاع الحب أن يوحد بين قلبيهما ويذيب هذه الفوارق التى ظهرت بحدة، أكد عليها الكاتب بوصف مظاهر الثراء البادية على لبنى، والتى ظهرت فى وصف مظهرها الأنيق، ومناداتها للمربية بلفظة »دادة».

وعن طريق لا مناص من سلوكها، يخبر سالم لبنى عن أن السر كله يكمن فى الحب؛ لنكتشف أن إلحاح الكاتب على عدم وجود امرأة فى البيت بما ترمز إليه من دفء ومودة وحب، أدى إلى ذلك الحرمان والجدب وحدثت فجوة فجفوة بين الأب وابنه تجلت فى صورة الخلاف بينهما، واتهام الابن لأبيه بأنه سر فشله، واتهام الجد لنفسه وشعوره بالندم والتقصير حيث يقول: (… بسبب ما فعلته بنفسى.

إذن، لا تدع لى يا سالم بالصحة، بل ادع لى باقتراب النور.

– أى نور يا جدى؟

فقال جده وهو يتطلع إلى نقطة ثابتة فى الغرفة النور علامة… ولم يكمل).

فنجد أن سالم ويمثل هنا المنطق والعلم والوجود الجديد، يحاول رأب الصدع الحادث فى بنيان البيت (المجتمع)، كما سبق أن فعل جده فى منزله بالحارة عن طريق الحب، والذى سيمكنه هو الآخر من معالجة تبعات الصدع الحادث على المستوى النفسى أو الاجتماعى؛ فيرصد نقطته ويتمكن من اللحاق بركب النور حتى يصل بسلام.



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *