د. محمد عبد الله الخولي يكتب: الأيديولوجيا حين تخضع لسلطة الرواية في «سيسامنيس»

د. محمد عبد الله الخولي يكتب: الأيديولوجيا حين تخضع لسلطة الرواية في «سيسامنيس»


يضع الروائى أحمد عبدالله إسماعيل القارئ فى موقف المكاشفة، بحيث يكون القارئ هو الحاكم على كل هذه الأحداث، ولكنه – أعنى القارئ – محكوم بتلك الأيديولوجيا التى تخضع لسلطتها الرواية بوصفها مؤسسة قائمة بذاتها، ولكنها فى النهاية تخضع لسلطة الأيديولوجيا الواقعية التى يتمايز فيها الخير على الشر وتنتصر فيها الدولة للعدل وتنتصف «فعندما يطغى منظور أيديولوجى واحد يسود العمل الأدبى كله، وتكون كل القيم خاضعة لوجهة نظر واحدة، بحيث أنه إذا ظهر منظور مخالف على لسان شخصية من الشخصيات مثلا، أخضع هذا المنظور إلى إعادة تقييم من وجهة النظر السائدة تشمل تقييم الرأى ومصدره، فَتُخَطِّأ الشخصية التى جاء على لسانها وتُجْرَح».

وكما انتصفت الدولة بشخصيتها البطولية فى الرواية للعدل يستطيع القارئ أن يميز هو الآخر بين جانبى الخير والشر وإلى أى الشخصيات ينتمى، ومن البدهى أن ينتصف القارئ فى النهاية للدولة التى تحاول بشتى السبل أن تقتلع الشر من جذوره حتى يستقيم هذا المجتمع، ويأمن المواطنون فيه من بطش خفافيش الظلام الذين يستترون خلف أقنعة الجبروت؛ فمطالعة الرواية – كما ذكرت آنفا – هو مطالعة للواقع، ولكن عبر تقنية السرد الروائى الواقعى «فامتلاك الراهن فى الرواية هو تقديم الحركة الاجتماعية روائيا، فالرواية مجتمع مصغر أو مقطع من مجتمع، لكن كما للراهن الاجتماعى – أى الحالة الاجتماعية – جوهره ودلالته وسياقه فى الحركة الاجتماعية العامة، فللرواية، وللراهن فى الرواية دلالته وجوهره وسياقه فى مفهوم الروائى ورؤيته ككل.

أحمد عبد الله إسماعيل

فى رواية «سيسامنيس» اتبع الروائى أحمد عبدالله إسماعيل تقنية التناقض فى البنية السردية للرواية، ومن خلال آلية التناقض تلك يتجلى الحق والباطل خلف أقنعة السرد المتعددة التى اختلجت هذه الرواية، فــ«سيسامنيس» هذا القاضى الذى سُلخ جلده حيّاً وكُسى كرسى العدالة بجلده مثل فى الرواية عن طريق لوحة اشتراها «ماجد زاهر أبو المجد» ووضعها فى قصره لتكون رادعًا له، ولكن مع مثول «سيسامنيس» كشخصية لها حضورها الطاغى فى الرواية، بداية من العنوان حتى النهاية- لم يمنع حضوره تلك الجرائم التى يقوم بها «ماجد زاهر أبو المجد».

وهنا صورة واضحة للتناقض الذى اعتمد عليه الروائى أحمد عبدالله إسماعيل فى روايته «سيسامنيس»، حيث فى نفس الحيّز المكانى «القصر»، وهو مكان له دوره الفعال فى الرواية – حيث يجمع هذا المكان بين التاريخ بحضور ومثول «سيسامنيس» وتجليات الراهن عبر ما يفعله «ماجد زاهر أبو المجد» يمثل التاريخ والواقع فى حيّز مكانى واحد، وكلاهما: «سيسامنيس» و«ماجد زاهر أبو المجد» يمثلان التاريخ بماضويته والحاضر براهنه وسياقاته، وكأنّ واقعنا يمثل فيه «سيسامنيس» جديدا عن طريق الإسقاط التاريخى الذى اتبعه الكاتب أحمد عبدالله إسماعيل كتقنية من تقنيات الكتابة السردية.

تتسع دائرة التناقضات فى رواية «سيسامنيس» لتكون تلك التناقضات هى المرتكز الأساسى للرواية فى بنائها السردى، فبين امرأة صالحة وأخرى طالحة ما بين العلاقات الشرعية المحترمة، والعلاقات الأخرى التى تنبنى على الغواية الشهوانية تمثل المرأة هنا وتنشطر بين زوجة صالحة ينبنى على أساس وجودها البيت الصالح، وبين امرأة تمثل الغواية الشيطانية التى تنهدم من أفعالها البيوت، فعملية الهدم والبناء يمثلها وجود المرأة فى رواية «سيسامنيس» بصورتين مختلفتين: البناء والهدم، ومن خلال فعلى الهدم والبناء يتجلى الصراع فى هذه الرواية.

غلاف الكتاب

وتتسع دائرة الهدم كلما تقدم «ماجد زاهر أبو المجد» إلى الغواية التى تمثلها «زينة الحلو» وتضيق دائرة الهدم وتتسع دائرة البناء كلما تقدم «ماجد زاهر أبو المجد» خطوة تجاه زوجته «سميرة» واعتمد الروائى أحمد عبدالله إسماعيل على ثنائية الهدم والبناء كصورة من صور التناقض- ليوضح الفرق بين العلاقات التى يحكمها الإطار الشرعى والعلاقات الأخرى التى يمهر عقدها الشيطان، وتظل المرأة فى رواية «سيسامنيس» هى الفاعلة الأولى فى ثنائية البناء والهدم. كما اشتغلت ثنائية البناء والهدم على البيوت بوصفها مكانا مركزيا فى هذه الرواية،.

وتوزعت الأحداث بين بيوت تبنى على التوبة والخلاص من الماضى بصورته السوداوية كبيت «جابر» وزوجته «شمس»، حيث أراد «جابر» أن يتخلّص من ماضيه فلجأ إلى المسجد – بوصفه بيتا من بيوت الله- يحاول من خلال وجوده فى البيت/ المسجد أن يعيد بناء حاضره من جديد على أساس التوبة، ثم يحاول «جابر» أن يؤسس حياته التى يتغياها عن طريق شمس بوصفها زوجة ينبنى على وجودها البيت، وبين بيوت أخرى تتهدّم كبيت «ماجد زاهر أبو المجد» الذى لم يلتفت إلى تلك العلامات والإشارات التى تجلت له بداية من الرواية على لسان «العرافة» وتلك الإشارات الروحية التى تلقفتها روحه عند دخوله المسجد لأول مرة وهو يبحث عن سائقه السابق «جابر» ولقاؤه بالشيخ «إسماعيل عبدالهادى» هذا الأخير الذى كان مثالا واضحا لتلك البيوت التى تبنى على أساس من التقوى والورع والخوف من الله، كما أن «ماجد» لم يلتفت إلى المضمرات التى تخللت كلام صهره «عبدالرحمن على».

ولم يكن بيت «ماجد» فى رواية «سيسامنيس» هو البيت الوحيد الذى تهدّم، بل تهدّمت حوله بيوت شتّى يرتكز وجودها على وجود وقيام بيت «ماجد» فقد تهدم بيت «سعيد عبدالمنعم» وهكذا بيت العمدة «عباس مسعود» وبيت «زينة الحلو» وبيت «مصطفى الخائن» تلك البيوت التى كانت ترتكز فى وجودها على السلطة المزعومة لــ«ماجد زاهر أبو المجد» وبمجرد تهاوى تلك السلطة الزائفة تهدمت من حولها هذه البيوت، وظل بيت الله هو الملاذ الآمن لكل من يريد، وظل بيت الشيخ «إسماعيل عبد الهادى» وبيت «شمس» زوجة «جابر» وبيت «عمرو» توأم ماجد الذى تنبأت «العرافة» بظهوره.

إذن فكرة التناقض وتمثلاتها فى عملية البناء والهدم تمثل محور الصراع بين الخير والشر بين الدولة وثلة المجرمين، بين بيوت أسست على التقوى وبيوت أسست على الغواية، بين امرأة صالحة وأخرى طالحة، وكأن الصراع فى رواية «سيسامنيس» هو صراع البشرية كلها، ومن خلال كلية وشمولية هذا الصراع تتخطى الرواية حدود الواقع الذى يعيشه الكاتب لتشمل بين جنباتها الواقع الإنسانى بصورة عامة، فالحياة كلها قائمة على هذا الصراع.

تحاول رواية «سيسامنيس» عن طريق التحليل النفسى للشخصيات أن تكتشف عوالم النفس البشرية من خلال تحليل ما تميل إليه شخصيات الرواية، فــ«ماجد زاهر أبو المجد» الذى كان يميل بطبعه إلى مشاهدة أفلام الكرتون التى تحكى قصة «الفأر والقطة»، هذا الفأر الذكى الذى يحاول بمهارة عالية وذكاء حاد أن يهرب من مخالب القط، وتحليلى النفسى لمشاهدة الأفلام الكرتونية من هذا النوع، يخفى جانب الضعف والهوان فى شخصية «ماجد زاهر أبو المجد» فمع هروبه وتحايله على السلطة فهو فى النهاية والبداية لا يتعدى كونه «فأر» ولهذه المفردة تأويلات نفسية متعددة ولكن الجانب النفسى المهم الذى تريد القراءة النقدية تسليط الضوء عليه، هو جانب الخوف الذى كان يحاول «ماجد» إخفاءه عن نفسه وعن الناس.

وتمثل مخالب القط «الدولة بكياناتها المحترمة»، وفى النهاية يسقط هذا الفأر الذكى فى قبضة مخالب السلطة العليا، فكل من يتجاوز حدود القانون، ويعمل على إرباك المجتمع، لا يتعدى كونه «فأر» لا محالة يقع بين مخالب العدالة والسلطة الحقيقية، لتحفظ الدولة هيبتها وهيبة القانون الذى فى ظله يعيش الجميع، كانت مشاهدة «ماجد» لأفلام الكرتون مجرد مخدر أو أفيون يوهم به نفسه بأنّه أذكى وأكثر دهاء ولن يقع بين مخالب القط ذات يوم، وكأن هذه الأفلام الكرتونية علاجًا يداوى به جراح الخوف والقلق التى أدمت روحه ونفسه.

إن رواية «سيسامنيس» للروائى أحمد عبدالله إسماعيل تدخل القارئ بحرفية فنية متناهية إلى أغوار الواقع، بل تصدمك حال القراءة – وبصورة عنيفة – بالواقع وتدخلك إلى دهاليز هذا الواقع وسراديبه المخيفة، ومع هذا العنف فى الكتابة والتلقى على حد سواء تتراءى الرواية فى صورة بناء سردى متعال تأبى الخضوع للواقع بتمثلاته الحقيقية مع الولوج الكلى فى عالم الواقع المخيف، إذ تنتصف الرواية فى كليتها إلى أيديولوجيا الراهن الروائى ليبقى جلال السرد محافظًا على تأنق الرواية بوصفها جنسًا أدبيًا ينتمى فى لغته ومضمونه إلى الكتابة الفنية، وإن كانت الرواية فى مجملها تقوم مقام الواعظ المعالج الذى يحاول عن طريق الكتابة الروائية أن يظهر أمراض الواقع ولم ينس أن يصف لهذه الأمراض روشتة علاج نافعة.




Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *