د.عصام البرام يكتب: نازك الملائكة.. سيميائية النص فى قصيدة «أنا»

د.عصام البرام يكتب: نازك الملائكة.. سيميائية النص فى قصيدة «أنا»


إن وطنًا مثل العراق الذى يعتبر شعراؤه بعدد نخيله الباسقات.. وللمرأة العراقية مساحة واسعة من الشعر تحتلها بين كل الأجيال الشعرية التى رسمت على خارطته شعرًا ونثرًا.. ولأنى أجد من نافلة القول ومن الواجب الإشارة إليه فى هذا المجال إلى نخبة من الشاعرات العراقيات: كالشاعرة نازك الملائكة ورباب الكاظمى وعاتكة الخزرجى ولميعة عباس عمارة وآمال الزهاوى.. وغيرهن الكثير من الأجيال اللاحقة، هذا إذا ما قلنا: هن الجيل الذى حمل رسالة الشعر العربى الحديث، وكان لهن الفعل الكبير فى الوسط الثقافى بين قمم الشعراء الذين كانوا من جيلهم من الرجال أيضًا.. فضلًا عما لحق من أجيال شعرية متعاقبة بعد مرحلة الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وما تركن أولئك الكوكبة الإبداعية من تأثير فى المرحلة التى عشنها، وما كتبن عن الظروف التى أحاطت بهن سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا.

إذا أردنا أن نحدد مرحلة الأجيال الشعرية، فهذا موضوع نتركه فى وقت آخر، ولكن ما نسعى به اليوم هو الغوص فى القيمة الإبداعية للشاعرة الكبيرة نازك الملائكة والتى نقدم قراءتنا لقصيدتها (أمى).

نازك الملائكة

والحقيقة أن الشاعرة نازك الملائكة واحدة من الجيل الذى واكب رواد التجديد من بدر شاكر السياب ولميعة عباس عمارة وعبدالوهاب البياتى وبلند الحيدرى فى العراق وأمل دنقل وصلاح عبد الصبور فى مصر.. إلا أنه تبقى للشاعرة الملائكة خصوصيتها فى منجزها الشعرى وما جددته فى الشعر الحديث، فضلًا عن مساهماتها الأكاديمية التى دافعت عن القصيدة الحديثة بمقالاتها وأبحاثها الأكاديمية، خاصة عند صدور كتابها (قضايا الشعر المعاصر) الذى كان لصدوره صدى واسع، ليس فى العراق فحسب، وإنما فى عالمنا العربى.

إن المنظور الشعرى القائم فى منجزها الإبداعى يستند إلى ثقافة الشاعرة، بما فى ذلك الصور الشعرية واللغة الابداعية التى ترسمها فى نصها الإبداعى الراقى، فالمخيلة لدى الشاعرة تتمتع بذخيرة عالية من المفردات التى تمنحها الدفق السحرى فى بناء نصها الإبداعى، وذلك من خلال رسم الخط البيانى- إن صح التعبير- الذى يرتقى بالجملة الشعرية عندها نحو صور جمالية لها تأثيرها لدى المتلقى. والشاعرة نازك الملائكة غنية عن التعريف بإرثها الشعرى وعمقها الدلالى فى كتابة الجملة الشعرية المتميزة، فضلًا عن القصائد الأخرى التى احتوتها دواوينها الشعرية منذ بداية حياتها الأدبية والإبداعية فى الأربعينيات من القرن الماضى.

لقد أصدرت «الملائكة» العديد من الدواوين، وكان لها صداها فى العراق وفى الأدب العربى وحتى العالمى، حتى وفاتها فى مصر ودفنت فيها، وكنا أقمنا حفلًا تأبينيًا بالذكرى السنوية الأولى لوفاتها بالقاهرة، وقد اخترت نموذجًا من قصائدها وهى قصيدة (أنا) التى شكلت انعطافا فى بلاغة الرؤية الفلسفية وعمق الدلالة والرمز والموروث، وكيفية توظيف الأسطورة فى نصها الإبداعى.

عندما نقرأ هذا المقطع الأول من قصيدة (أنا) الذى تقول فيه:

(الليل يسأل من أنا

أنا سرهُ القلق العميق الأسود

أنا صمته المتمرد

قنعت كنهى بالسكون

ولفقت قلبى بالظنون

وبقيت ساهمةً هنا

أرنو وتسألنى القرون

أنا من أكون؟).

إن الشاعرة تسعى فى إعادة تشكيل عناصر النص بلغة درامية، ولملمة الكلمات التى تتقبل التفاعل بين الحسى والمرئى، فالأشياء موجودة حولها، وكلها قابلة لأن تُنقل على هيئة حدث شعرى، ولكن ليس كل الشعراء لهم تلك الإمكانية الشعرية فى نقل الأحداث الشعرية التى يصوغها داخل ثيمة النص، فالشاعرة تعطى لنا صورة بين المحسوسات الشعورية، ثم تنقلها إلى صيغة جمالية تسكن البيت الشعرى أو الجملة الشعرية.

فالإنسان الذى يعيش فى أحداث تفاصيل حياته اليومية غير من يعيش فى شخصية الشاعر، فى حين نجد أن الحدث الشعرى عندها يختمر وله كينونته فى المخيلة، فالبعد التخيلى عند الشاعرة نازك الملائكة أنها استخدمت اللغة استخدامًا خاصًا من خلال رؤيتها الفنية وتقنياتها الذاتية وثقافتها المعرفية وطاقتها التجديدية، وأعلى درجة الإحساس داخل جملتها الشعرية التى تمنحها أعلى درجات الطاقة والوقود العاطفى.

ثم تقول فى المقطع الذى يليه:

(أنا روحها الحيران أنكرنى الزمان

أنا مثلُها فى لا مكان

نبقى نسيرُ ولا انتهاء

نبقى نمرُ ولا بقاء

فإذا بلغنا المنحنى

خلناهُ خاتمةَ الشقاءْ).

إن عنصر الدهشة والغرائبية والصدمة الشعرية التى تتوزع بين سحرية المفردة الشعرية لدى الشاعرة نازك الملائكة هو تحرير الذات والنص، ليشكل بعدها عمق المنظور ليمنح المتلقى إحساسا يتناغم ويتفاعل مع أجزاء جسد النص إذا ما قلت معظمها.

فالشاعرة تعرف كيف تدخل إلى الحواس الإنسانية، مستخدمةً أدوات شعرية فى ذهنيتها وتجربتها الشعرية، وهى ليست أبنة الحياة فقط، وإنما جالت نظرتها فى زوايا الحياة الغامضة، لتقدم لنا تجربة ذات نكهة خاصة، لا يتحلى بها الآخر، مهما اعتلت أدوات الشعر لدى الغير.

فالشاعرة الملائكة تستعمل ألفاظًا ابداعية تعتمد على مراوغة اللغة من خلال إعطاء هذه الألفاظ دلالات جديدة عن طريق تجاوزها وتوزيعها داخل النص.

ثم يلى المقطع التالى من القصيدة:

(وأعود أدفنه أنا

لأصوغ لى أمسًا جديدًا

غده جليد

والذات تسأل من أنا

أنا مثلها حيرى أحدق فى ظلام

لا شىء يمنحنى السلام).

هى تعمل بتنسيق مكوناتها للقصيدة، فمن خلال العنونة (كما أطلق عليها الفرنسيون) حيث يعد العنوان بوصفه التاج الأعلى، والذى نضعه عادة فى قمة القصيدة كى يملك المفتاح للدخول من الباب الشرعى للقصيدة، لتذهب للتفاوض بين الحس المرئى المادى للحياة والحس اللامرئى لذات الشاعرة وهى تقتنص اللحظة الابداعية لصياغة جملتها، فيكون الانتصار للبيت الشعرى.

نحن أمام شاعرة تمتلك من أدواتها الفنية واللغوية وتوظيف اللغة على المستويات الزمنية والمكانية والدرامية، فهى تعرف كيف تصوغ وتتجاوز داخل بنية النص.

لا شك أن ما نسعى إليه فى هذه القراءة لشاعرة تحمل هم الإنسان والوجود، وتتفاعل مع مكوناته بكل تفاصيل الحياة، وتعطى للإبداع شكله الآخر الذى يفجر فينا إحساسًا بالتضامن مع قضية الإنسان وصراعاته الوجودية حيثما نكون أو يكون.. فهذا يعنى أنها امتلكت زمام القصيدة وجسدها وهيكلتها، وعرفت كيف توظف السحر البيانى واللغة والخيال والموروث والدلالة والرمزية، ليكون نتاجها شعرًا غزير المعانى والقوافى، وهى جزء من هذا الوجود الانسانى الذى تكابده فى كل لحظة، فضلًا عن العمق الفلسفى الذى يذكرنا بقصيدة إيليا أبوماضى (نسى الطينُ ساعةً إنه طين) ذات العمق الفلسفى عن خلق الوجود، وما يقترب من قصيدة (أنا) لشاعرتنا الملائكة.

وهنا تسترسل فى المقطع الأخير من قصيدتها:

(أبقى أسائلُ والجواب

سيظل يحجبهُ سراب

وأظلُ أحسبه دنا

فإذا وصلتُ إليه ذاب

وخبا وغاب).

لقد استطاعت نازك الملائكة أن تمتلك من ناصية نصها أو جسد قصيدتها الكامل والإحساس الداخلى فى الجملة الشعرية، ذلك أنها تمتلك من ضبط تقنية البناء فى وحدة القصيدة، فهى توازن وتعرف كيف تمسك بقبان الميزان حتى توازن بين الصوت القديم والصوت الحديث والمعاصر للحياة فى شكل القصيدة الحديثة.

وإذا أردنا أن نبحر فى عالم قصائدها الأخرى، فلكل منها وحدة بناء خاص وعالم يتمحور بين عالم الأشياء المادى وبين فلسفة الحياة وروح العصر، فهى تشكل القاسم المشترك لقصيدة الحداثة المعاصرة.




Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *