خالد إسماعيل: لم أتعمد خلق حرب بين الهامش الصعيدى والمتن القاهرى (حوار)

خالد إسماعيل: لم أتعمد خلق حرب بين الهامش الصعيدى والمتن القاهرى (حوار)


المشهد المتدنى الذي تعيشه «الرواية» عاد بي للقصة

الهامش والمتن مسألة نسبية في العملية الإبداعية

لم أغادر موقع «الصحفى الشغيل» الذي يأكل من عمله الذهنى

متمسك باللغة العامية بهدف تحقيق الاتساق مع النفس وتحقيق الصدق الفنى

بحثت عن صيغة تحمينى من «محكمة التاريخ» فكتبت «أفندم ..أنا موجود»

أفادتنى الصحافة بأن أعطتنى خبرة الصياغة المكتملة الأركان

الصحافة وضعت يدى على قلب المجتمع النابض

منذ شهر تقريبًا صدرت المجموعة القصصية «مقتل بخيتة القصاصة»، عن «دار ميريت» للنشر بالقاهرة، للقاص والروائى خالد إسماعيل، إذ يعود بعد ما يزيد على العشرين عاما للقصة القصيرة، وتدور أحداث المجموعة بين جنوب الصعيد وهوامش «القاهرة»، وكأن خالد إسماعيل يصر على التأريخ للهامش حتى وهو يكتب «القاهرة ـ المتن»

إذ يواصل القاص والروائي الكبير خالد إسماعيل مشروعه الإبداعي الممتد عبر أكثر من 10 أعمال إبداعية متنوعة بين الرواية والقصة القصيرة، مشروع عماده الأساسي الانحياز للإنسان وجماليات الكتابة الواقعية عن جنوب مصر، وهو ما يظهر في «مقتل بخيتة القصاصة» الصادرة مؤخرا، والتي تضم ثمانى قصص «قطار الليل، ليلة الخميس، فخ الذكريات، مقتل بخيته القصاصة، لعبة الرفاق، معاش مبكر، حورية من كوم أشقاو، سيرة مناضل»، إضافة إلى رواية قصيرة «مذكرات رفيق»، لذلك ذهبت «المصري اليوم» إليه وأجرت الحوار التالي:

تعود بعد عشرين عاما في «مقتل بخيته القصاصة» للقصة القصيرة، هل كتابة القصة صعبة مقارنة بكتابة الرواية وأنت صاحب تجربة تجمع بين الرواية والقصة؟

العودة كانت بنصف قرار، ونصف إرادة منى، والنصف الآخر خارج على إرادتى، وهذا معروف في عملية الإبداع، هناك «وعى» و«لا وعى»، ومايهمنى هنا القول إن نصف القرار الذي يخصنى في العودة للقصة، سببه المشهد ـ المبتذل المتدنى ـ الذي يعيشه فن «الرواية» في مصر في الوقت الراهن، فقد حدث خلط رهيب أفسد ذوق المتلقى وأفسد العقول ذاتها، فالمعروف في تاريخ الأدب أن هناك مستويات من الكتابة، كل مستوى يخاطب شريحة من القراء، مثلا كان الراحل «محمود سالم» يكتب الألغاز، والمغامرات ليخاطب بها شريحة المراهقين، ومن بعده جاء «نبيل فاروق»، وكان الوضع مستقرا، نجيب محفوظ يكتب لشريحة، ونبيل فاروق يكتب لشريحة، وكان الناس يعرفون الفارق بين النوعين أو الأسلوبين، ولكن دخل على خط الكتابة نوع من الكتاب، لا هو يمتلك مهارات محمود سالم ونبيل فاروق، ولا هو يمتلك وعى نجيب محفوظ، هو يمتلك «تشوش فكرى» جعله يكتب ما يسمى «روايات» وهى كتابة موجهة للعجائز والشيوخ والموظفين المتقاعدين، ووجدت دورالنشر، في هذا النوع فرصة للبيع وتحقيق المكاسب المالية، فتوسعت في طباعة هذا اللون، حتى فسد ذوق الناس وفقدوا التمييز بين أدب جاد عميق يشكل «صلب» الثقافة الرفيعة، وأدب مخصص لتسلية الشرائح التي تعانى من الملل ولديها الوقت المتسع وترغب في إنفاقه والتمتع بهذا الإنفاق، وكان من نتائج هذه ـ السيولة وهذا الخلط بين المفاهيم ـ نسيان «القصة القصيرة» وتجاهلها، رغم أنها فن دقيق، مرتبط بالشعر، والصحافة، والذوق الرفيع، فهو فن يقوم على التكثيف، وتنشره الصحف، وكاتبه وقارئه يمثلان شريحة مرهفة الحس، من حيث الإبداع والتلقى، وهذا كله جعلنى أقررـ نصف القرارـ وأعود للقص، لأهرب من مشهد «الرواية» المتدنى، وأحتمى بشريحة قراء القصة القصيرة، ولى تجارب قصصية سابقة، فصدرت مجموعتى القصصية «درب النصارى ـ 1997» ومجموعتى «غرب النيل ـ 2002»، وبالنسبة للمقارنة بين «القصة و»الرواية«، من حيث الصعوبة والسهولة، لا يوجد قانون يحكم هذه العلاقة، فالقصة لها شروط من أهمها التكثيف والإيقاع السريع، والرواية لها أيضا شروط من أهمها، القدرة على بناء عالم يفيض بالتفاصيل، والقدرة على رسم شخصيات مكتملة الأركان يستطيع القارىء أن يتعامل معها ويحبها ويعاديها ويتعاطف معها ويتخيل وجودها بوضوح، وكل كاتب له قدرة تحقق له التفوق في كتابة نوع سردى محدد، وهناك من يكتب النوعين»القصة والرواية«.

«مقتل بخيته القصاصة» مجموعة قصصية جديدة لخالد إسماعيل

في «مقتل بخيته القصاصة» تدور الأحداث بين جنوب الصعيد وهوامش «القاهرة»، لماذا تصرعلى التأريخ للهامش وأنت تكتب «القاهرة ـ المتن»؟

الهامش والمتن مسألة نسبية في العملية الإبداعية، الهامش في مخيلة كاتب، قد يمثل «المتن في مخيلة كاتب آخر، وفى السياسة والاقتصاد، تمثل»القاهرة ـ المركز«ويمثل»الصعيد ـ الطرف أو الهامش«، لكن ما حدث معى أننى ولدت وتشكل وجدانى في»الصعيد«فأصبح في مخيلتى ووجدانى هو»المتن«، وجئت إلى»القاهرة«وعشت في هوامشها وعشوائياتها، التي استطاعت أن تطغى على مركزية القاهرة، وهو ما يسمى لدى علماء الإجتماع»ترييف المدينة«، فلم تعد القاهرة»مركز التحضر«ولم يعد»الريف«ينتظرمنها التنويروالتقدم، وهذا يفسر وجود الجماعات السلفية وسيطرتها على مناطق الغنى والثروة في القاهرة، وهذا مرتبط بسيطرة ثقافة الهامش على المستوى العربى، فانتهت الأفكار التقدمية مع نهاية الاتحاد السوفييتى، ونهاية»القومية العربية«سياسيا، وموت القاموس السياسى المرتبط بسنوات ما بعد التحرر من الاستعمار، وسيطرة»الهامش السلفى الوهابى«على عقول المراكز التي كانت مصدر التنوير في خمسينيات وستينيات القرن الماضى، ولعلك تشاهد الصور التي تنشرعلى مواقع التواصل الاجتماعى التي تصور فتيات صعيديات يرتدين الزى الأوربى في»أسيوط«مثلا في حقبة»القومية والناصرية«، وناشر الصورة يبدى حزنه على المصير الذي انتهت إليه»أسيوط«ومصر كلها، خلاصة القول، لم أتعمد خلق حرب بين»الهامش الصعيدى، والمتن القاهرى، بل حاولت التعبيرعن رؤيتى لمجتمع وتجارب إنسانية كنت شريكا في صنعها وانعكست آثارها على حياتى، والصعيد الذي عشت فيه طفولتى وشبابى هو عندى مركز جدير بتقديم قراءة إبداعية له من خلال فن القصة وفن الرواية.

القاص والروائي خالد إسماعيل

هل ترى تشابها بين روايتك «قهوة الصحافة» وهى رواية تصور حال الصحافة المصرية في مرحلة ما بعد التأميم «1960» ورواية «زينب والعرش» للكاتب الراحل فتحى غانم؟

في العام «2009» أصدرت الطبعة الأولى من روايتى التي حملت عنوان «26أبريل»، وفيها رصد لتجربة الصحافة التي كانت تسمى «مستقلة»، وفى العام «2019» أصدرت الطبعة الأولى من روايتى «قهوة الصحافة»، والروايتان ترصدان تحول الفن الصحفى إلى أداة لخدمة القرار السياسى للحكومات المتعاقبة، منذ العام «1960» وهو العام الذي قرر فيه «جمال عبدالناصر» نزع ملكية الصحف الخاصة، وتسليمها للحكومة، بغرض التحكم الكامل في تشكيل الرأى العام، وكانت رواية الكاتب الكبيرالراحل فتحى غانم، هي الأسبق بحكم وجوده في المطبخ السياسى أثناء عملية التأميم، أما روايتى «26أبريل» و«قهوة الصحافة» فرصدتا، النتائج التي ترتبت على قرار التأميم، والنتائج التي ترتبت على ظهورالصحف المستقلة، وفى الحالتين كنت مهموما برصد العلاقة بين «الصحافة والسياسة» في الواقع الذي عرفته وعشته، وهو واقع مختلف عن الواقع الذي عاشه «فتحى غانم» فهو كان قريبا من مركز صنع القرار وتولى مواقع مهمة منها رئاسة مؤسسات صحفية ورئاسة تحريرمجلات وجرائد، أما ـ العبدلله ـ فلم يغادر موقع «الصحفى الشغيل» الذي يأكل من عمله الذهنى وبيع قوة عمله حتى اليوم، وهذا يعنى اختلاف الموقعين واختلاف الموقفين وبالتالى اختلاف النتائج، هذا إلى جانب اختلاف الظروف واختلاف الزمن.

العامية «اللهجة المصرية» تسيطر على السرد في تجربتك كلها، هل هذا بسبب «شاعر العامية» الذي هجرته ومازال يعلن عن وجوده بهذه الطريقة؟

الحقيقة أننى متمسك بالعامية بهدف تحقيق الاتساق مع النفس، وتحقيق «الصدق الفنى» الذي يعنى احترام عقل المتلقى، وعدم مخالفة شروط الواقع، فالفلاح ـ في قصصى ورواياتى ـ فلاح طبيعى، لا يتحدث «العربية الفصحى» لأنه لا يعرفها، وهناك قاعدة معروفة في «كتابة الدراما» تنص على ضرورة تقديم «الشخصية» بما يعبر عنها بصدق، والصدق هو تقديم اللغة المعبرة عن مستوى ثقافة كل شخصية، فالعامل والسائق والجزار، لكل واحد منهم مستوى لغوى يعبر به عن نظرته للعالم، وكذلك الطبيب والمعلم والمهندس، فاللغة العامية عندى لا غنى عنها لأننى لو فقدتها، فقدت احترامى لنفسى، وفقدت احترام المتلقى ـ القارىءـ الذي أتقدم إليه بالرسالة التي تحتويها القصة أوالرواية، وللقاص الرائد الراحل «يحيى حقى» فضل التنظير لهذه المسألة، فهو من علمنا في كتبه ومن أهمها «أنشودة للبساطة» أن اللفظ القادر على التعبير هو ما يجب على الكاتب أن يكتبه، دون الانشغال بأصله الفصيح أو العامى.

في رواية «أفندم ..أنا موجود» توثق لأحداث «ثورة 25 يناير»، ما هي الصعوبات ـ في وجهة نظرك ـ التي تصادف الروائى الذي يكتب ويؤرخ لحدث معاصر ومعروف للقارىء؟

رواية «أفندم..أنا موجود» لها خصوصية عندى، ولها ظروف تخصها، فهى مكتوبة عقب فترة توقف عن الكتابة السردية لمدة خمس سنوات، وقبلها كنت أصدرت رواية «أرض النبى» التي لم يهتم بها أحد لأنها صدرت في ظل أحداث «ثورة 25 يناير2011»، عن دار ميريت بالقاهرة، ولما تفجرت الثورة الشعبية، بحثت عن صيغة تحمينى من حكم «محكمة التاريخ»، وهى محكمة، تحاكم الناس على مواقفهم بعد عشرات ومئات السنين، وقضاتها هم المؤرخون والباحثون والمبدعون، والدليل على وجودها أننا مازلنا نحاسب «يوسف إدريس» على مواقفه من منظمة «الحركة الديمقراطية للتحررالوطنى» وروايته «البيضا» التي قيل إنها مكتوبة في ظل وقوع «رفاقه» في قبضة «سجون عبدالناصر»، وإنها رواية مكتوبة بهدف التنكر للرفاق، والتقرب للسلطة الحاكمة، وكانت رغبتى في كتابة رواية «أفندم ..أنا موجود» تحقيق البراءة للذات في مواجهة هذه «المحكمة» القاسية الأحكام، فأنا شهدت «ثورة شعبية» وأنا «روائى» إذن أنا مطالب بتحديد موقفى، ولتحديد هذا الموقف ـ المنحاز للثورة بالطبع ـ لجأت للتاريخ، فرصدت روائيا ما حدث في مصرمنذ العام «1946» وربطته بما حدث في «25 يناير2011»، وسجلت الوقائع والمعارك المهمة في مسيرة الثورة الشعبية، والصعوبة ـ هنا ـ تكمن في فرز وتحديد المهم وغير المهم من الوقائع والتفاصيل، ومن حسن حظى أننى وجدت إقبالا من شباب الثورة، على الرواية، فنفدت الطبعة الأولى في وقت قصير، وطبعت الطبعة الثانية منذ أقل من عامين، وهى رواية سياسية لها ظروف خاصة، ولهذا هي لا تنفصل عن مشروعى السردى بصورة كلية، لكنها تختلف من حيث الموضوع، هي رواية ولدت في ظل «ثورة» والثورة حدث استثنائى في حياة الشعب، أي شعب، والحكم على مستوى ومضمون هذه الرواية مرتبط ـ بالضرورة ـ بالنقد والتحليل الموجه للأعمال الأدبية التي واكبت «ثورة 25 يناير»، فهى رواية مختلفة من حيث الشكل والموضوع عن بقية رواياتى السابقة عليها واللاحقة أيضا.

تمارس العمل الصحفى منذ العام 1988، فهل تأثر عالمك الروائى بعملك الصحفى؟

هناك «خرافة» رددها بعض المبدعين حول خطورة الصحافة على الأدب، وصدقها بعض آخر، والحقيقة أن يوسف إدريس ويوسف السباعى وعبدالوهاب الأسوانى وخيرى شلبى ونجيب محفوظ وسليمان فياض وفتحى غانم وعبدالرحمن الشرقاوى وإبراهيم أصلان، من الأجيال السابقة على جيلى، وكلهم تعلمنا منهم وكلهم عملوا بالصحافة وأفادتهم على المستوى التقنى والمستوى المعنوى، فطورت من أساليبهم وحققت لهم الانتشار والوصول للقراء، أما بالنسبة لى، فقد أفادتنى الصحافة فأكسبتنى فن الإخبار، بمعنى أنها أعطتنى خبرة الصياغة المكتملة الأركان التي يفهم منها ـ القارىء ـ المعنى بسهولة ووضوح، وأعطتنى اللغة السهلة البسيطة، الخالية من التقعيروالغرابة، وهذا ما يفتقده المبدعون الذين لم يعملوا بالصحافة، فمازالت قضية «الغرابة والفخامة اللغوية» تسيطرعلى عقولهم، وتنعكس على أساليبهم، فتصنع رهبة لدى القارىء وصعوبة في التلقى، والصحافة وضعتنى في قلب المجتمع ووضعت يدى على قلبه النابض، وعرفتنى شرائح وشخصيات ثرية، أفدت منها في كتابتى القصصية والروائية.



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *