جوائز مهرجان البندقية السينمائي : حمامة اندرسون تقطف الأسد الذهبي
- صفاء الصالح
- بي بي سي – البندقية
توج فيلم المخرج السويدي روي أندرسون “حمامة تقف على غصن تتأمل الوجود” بجائزة الأسد الذهبي للدورة 71 لمهرجان البندقية السينمائي، ومنحت لجنة التحكيم في المهرجان جائزتها الكبرى لفيلم المخرج جوشوا أوبنهايمر “نظرة الصمت”.
ولأندرسون (71 عاما) فرادة اسلوبية واضحة، على الرغم من أنه لم يخرج سوى 5 أفلام في مجمل حياته المهنية منذ سبعينيات القرن الماضي (أول افلامه قصة حب سويدية عام 1970).
ويمول أندرسون أفلامه من عمله في الاعلانات التجارية التي انتج اكثر من 400 منها.
يشكل فيلمه الجديد الجزء الثالث من ثلاثيته “العيش” بعد فيلميه “أغان من الطابق الثاني” و “أنت، العيش”، ويواصل فيها نهجه القائم على اكتشاف الشعري والجمالي في اليومي والمبتذل.
ضحك ومرارة
يشبه أندرسون بطلي فيلمه الأخير، جونثان (هولغر أندرسون) وسام (نيسي فيستبولم) ، وهما بائعان يزوران مدينة غوتمبرغ، ويعرضان سلعهما للبيع ولا أحد يشتريها، وهي اسنان دراكيولا وصندوق الضحك وقناع بلاستيكي لعجوز بسن واحدة، وكلما يفشلان في البيع يكرران عبارة “نريد أن نساعد الناس على أن يستمتعوا” رغم تجهم ملامحهما والكآبة الطاغية عليهما.
فأندرسون يسعى لامتاع جمهوره، لكن الكوميديا التي يقدمها تمتزج بالمرارة، وباحساس فاجع بمأساوية الوجود الإنساني. فهو يحفر في المسافة بين الألم والضحك، محاولا تقديم جماليات العادي واليومي والتافه والتعبير عن هموم الإنسان الهامشي والمهمل والمستلب.
يصف أندرسون فيلمه الأخير بأنه “محاولة لعرض ما يمكن أن يكون وجودا إنسانيا”، ويغلف سعيه هذا في اطار من الكوميديا السوداء، فنراه يفتتح فيلمه بثلاثة مشاهد تحمل عنوان لقاءات مع الموت.
نرى في الأول رجلا يموت بالذبحة القلبية اثناء محاولته فتح قنينة من النبيذ على بعد أمتار من زوجته التي لا تسمع شيئا بسبب صوت الخلاط الكهربائي.
في اللقاء الثاني ثلاثة أبناء يزورون امهم العجوز المحتضرة في المستشفى والمصرة على أن تظل ممسكة بحقيبتها التي وضعت فيها كل مجوهراتها لتأخذها معها الى العالم الاخر، ويثار خلاف بين الأبناء الثلاثة مع محاولة الابن الأكبر انتزاع الحقيبة من يد الام المحتضرة.
اما اللقاء الثالث فنرى رجلا سقط ميتا على أرضية كافتريا، ونادلة الكافتريا لا تهتم به بل تخاطب الزبائن بحثا عمن يعيد شراء ما طلبه ويدفع ثمنه.
ويواصل أندرسون مقاطع فيلمه التي لا تتنامى في سياق سرد خطي تقليدي، وتزواج في بنائها بين الخيالي السريالي والقضايا الواقعية الحاضرة في الذاكرة والحياة اليومية.
على سبيل المثال، أحد مقاطع الفيلم يحيل إلى الاتهامات التي تعرضت لها شركة تعدين وصهر سويدية بعد بيعها آلاف الأطنان من بقايا المعادن المصهورة إلى تشيلي في الثمانينيات، ورفع ضدها عدد من القضايا القانونية لاتهامها بالتسبب في تسمم المئات، ومن بينهم أطفال ممن كانوا يلعبون في مواقع الفضلات تلك. فيظهر أندرسون الناس يدخلون في وعاء نحاسي اسطواني ضخم يدور على محور وسطه.
ومن أروع مشاهد الفيلم، دخول جونثان وسام كافتريا وبار تطل واجهتها الزجاجية على شارع يمر فيه جيش الملك السويدي تشارلس الثاني عشر في حملته الشهيرة ضد الروس في القرن 18. ويدخل الملك إلى الكافتريا بحصانه من أجل دخول الحمام لكنه يجده مشغولا، ثم يتكرر المشهد مع عودة الجيش ذاته مهزوما.
وعلى الصعيد التقني تميز فيلم أندرسون بصورة خاصة لا يمكن أن تشاهدها في أي فيلم آخر، إذا استخدم مرشحات للحصول على صور شاحبة تغلب عليها الألوان الفاتحة،(الابيض الحليبي، والبيج، والرمادي،والأخضر الباهت جدا) ولا تشبه أبدا ألوان الواقع لكنها توحي ببرودته وجموده، ويصف أندرسون نفسه أنه مولع بتصوير “الهايبر ريالتي” وليس الواقع.
وفي إحدى مقابلاته يقول أندرسون عن عنوان فيلمه “أنا من كان يفكر في الوجود وقد عرضت نفسي كحمامة”، فالعنوان يحيل إلى لوحة بيتر بروغل الأكبر “الصيادون في الثلج”، حيث تظهر طيور تقف على الأغصان في مشهد شتائي، يقول اندرسون إنه تخيلها تراقب البشر تحتها وتعجب لما يفعلون.
ودعا اندرسون لحظة تسلمه الجائزة إلى أن تكون السينما “إنسانية”، كما استذكر باعتزاز المخرج الايطالي ورائد الواقعية الجديدة فيتوريو دي سيكا، واصفا فيلمه “سارق الدراجات” بأنه الفيلم الذي أثر فيه كثيرا.
أفضل مخرج
وذهبت جائزة الأسد الفضي التي تمنح لأفضل مخرج للروسي أندريه كونتشالفسكي عن فيلمه “ليالي ساعي البريد البيضاء”، الذي قدم فيه اسلوبا زاوج بين الروائي والوثائقي، في تقديم حكاية قرية صغيرة منعزلة على بحيرة في شمالي روسيا.
ونجح كونتشالفسكي في استثمار جماليات الطبيعة وعزلة شخصياته التي اداها ممثلون غير محترفين، ليقدم فيلما على قدر كبير من الجمال والاتقان والثراء البصري، ومختلفا كليا عن مرحلته الهوليودية.
وعن استحقاق توج فيلم المخرج جوشوا أوبنهايمر “نظرة الصمت” بجائزة لجنة التحكيم الكبرى.
وفي هذا الفيلم يواصل المخرج أوبنهايمر مشروعه الذي بدأه في فيلمه السابق “فعل القتل”، بمزيد من الغوص والتحليل والبحث في قصص إبادة أكثر من نصف مليون من الضحايا في اندونيسيا بعد الانقلاب العسكري على سوكارنو في منتصف الستينيات، والتحول التدريجي للسلطة إلى الجنرال سوهارتو.
وإذا كانت ضربة أوبنهايمر الأساسية في الفيلم السابق هو عثوره على بعض قتلة الضحايا واقناعهم لإعادة تمثيل أفعالهم على وفق اسلوب الأفلام السينمائية التي يحبونها، وسط حس عال من السخرية السوداء، والرصد الدقيق والتحليل لدوافعهم النفسية وانماطهم السلوكية ودوافعهم لارتكاب هذه الافعال الوحشية، فإنه في الفيلم الجديد يعود إلى منظور الضحايا (عبر الناجين منهم وعوائلهم) مقابل منظور القتلة، ويجمعهما في مشاهد مشتركة لتذكر الحدث من منظورات متناقضة، فيستجوب القتلة عبر شقيق أحد الضحايا، ثم يرصد استجابات وردود أفعال الطرفين،(أنظر المقال التفصيلي عن الفيلم في صفحة فنون في الموقع).
جوائز التمثيل
وعلى الرغم من مشاركة أفلام لممثلين كبار في هذه الدورة، كما هي الحال مع آل باتشينو الذي اشترك في فيلمين، ومايكل كيتون الذي ظهر في فيلم الافتتاح “بيردمان” وليم ديفو الذي جسد دور المخرج والكاتب الايطالي بيير باولو بازوليني، وفي الجانب النسائي مع تجارب أدائية قوية مع الممثلة الأذرية فاطمة معتمد اريا في فيلم “نبات”، والممثلة الصينية لو تشونغ في فيلم “ريد أمنيسيا”، إلا أن جوائز التمثيل (فولبي كبس) ذهبت إلى ممثلين أقل شهرة هما آدم درايفر وألبا رورواكر عن فيلم “قلوب جائعة”.
ومنحت لجنة التحكيم التي ترأسها الموسيقار الفرنسي الكسندر دبلا، جائزة ماستريو ماسترياني التي تمنح لأفضل موهبة تمثيلية واعدة للممثل رومان بول عن فيلم “ضربة المطرقة الاخيرة” والمقصود في الفيلم عصا الطبل في اشارة الى ضربات العصا على “الدرامز” في سيمفونية ماهلر السادسة التي بنيت احداث الفيلم عليها.
كما توجت المخرجة الإيرانية راخشان بني اعتماد بجائزة أفضل سيناريو عن فيلمها المميز “حكايات” الذي شاركها في كتابته فريد مصطفاوي.
ومنحت لجنة التحكيم جائزة خاصة لفيلم “سيفاس” للمخرج التركي كان موجيدتشي الذي تناول فيه حكاية في احدى قرى الاناضول حيت تجري عمليات مصارعة الكلاب.
وكان للسينما العربية نصيبها في جوائز تظاهرة أفاق (أوريزونتي)، عبر فوز المخرج الأردني الأصل ناجي أبو نوار بجائزة الاخراج عن فيلمه “ذيب”، الذي قدم محاولة ناجحة لصنع فيلم تشويق ومغامرة في بيئة بدوية( تناولناه تفصيليا في مقال بصفحة فنون في الموقع).
وقد منحت الجائزة الكبرى في هذه التظاهرة للفيلم الهندي “محكمة” للمخرج جيتانا تامهاني، الذي يتناول فيه استغلال بطء النظام القضائي لاضطهاد المعارضين السياسيين في الهند، وقد معالجة بسيطة وعميقة لموضوعته، وتصويرا امينا لواقع الحياة في الهند وعلاقات القوة فيها.