النهضة اللُّغَويّة في القرن التاسع عشر.. بُنَاتها أقباط ومسلمون ومارونيون

النهضة اللُّغَويّة في القرن التاسع عشر.. بُنَاتها أقباط ومسلمون ومارونيون


في القرن العشرين امتلكنا «مجمعا للغة العربية» وعدة قواميس حديثة، وكتبا وموسوعات عديدة في اللغويات مؤلفة ومترجمة، وسعينا لتجديد النحو مرات، لكن النهضة اللغوية العربية الحديثة كانت، بلا ريب، بنت القرن التاسع عشر.

يعزو الدارسون والمؤرخون نشوء النهضة العربية في القرن الـ ١٩ إلى عاملين اثنين: الأول – مجيء الحملة الفرنسية إلى مصر، والثاني- ظهور محمد على وتوليه الحكم بعد خروج الفرنسيين. وقد أعجبني الرأي الذي قال به الدكتور عبداللطيف حمزة، في موسوعته «أدب المقالة الصحفية» فقد عزا النهضة الفكرية إلى العاملين المذكورين، ثم أضاف إليهما عاملين جديدين هما: ظهور السوريين في مصر، واشتغالهم بالصحافة والمسرح، وظهور السيد جمال الدين الأفغاني كذلك في مصر وتأثيره الكبير في التفكير المصري. ويتفق مع هذا الرأي أيضا الدكتور لويس عوض الذي أورد هذين العاملين في صفحة واحدة من كتابه «تاريخ الفكر المصري الحديث».

السؤال اللغوي الأول فيما يخص الحملة الفرنسية على مصر (١٧٩٨- ١٨٠١) هو كيف تفَاهَم الفرنسيون مع المصريين خلال تلك الحملة؟ ويقدم لنا الإجابة نجيب العقيقي صاحب موسوعة المستشرقين فيقول «لما استصفى نابليون أموال الكنيسة في إيطاليا، وأقفل منشئاتها، واستولى على المدرسة المارونية (١٧٩٨) اختار بعض طلابها، وكانوا يتلقون العلم في جامعات روما، بعد تعطيل الدراسة فيها، محققين في المطبعة التي نقلها، أو تراجمة في جيشه، ومن هؤلاء الأخيرين: إلياس فتح الباب، ويوسف مسابكي، والأخ مشحارة شامي، فانضموا إلى المترجمين في حملته: ميخائيل صباغ، وإلياس بقطر، ونقولا الترك، وروفائيل زخور. فهؤلاء إذن هم التراجمة الذين توسطوا بين المصريين والفرنسيين.

أما إليوس (إلياس) بقطر، فكان فتى مغمورا من أبناء أسيوط، وقد صار واحدا ممن صنعوا نهضة الاستشراق اللغوي في أوروبا، يقول د. أنور لوقا إن بقطر كان يعمل كاتبا لدى المعلم يعقوب (١٧٤٥-١٨٠١) تلك الشخصية القبطية الملغزة، وقد صار بقطر، القبطي الصعيدي، صاحب أول قاموس ثنائي اللغة، قاموس فرنسي – عربي، وكان إلياس بقطر – الذي عمل مترجما أثناء الحملة كما ذكر العقيقي- غادر مع الحملة إلى فرنسا، فعمل أستاذا للغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية في باريس، وهناك كلفوه بتأليف معجم فرنسي عربي، فوضع المعجم وأتمه عام ١٨١٤م، وطبع القاموس عام ١٨٢٨، بعد وفاة بقطر الذي مات في الثامنة والثلاثين من عمره عام ١٨٢١.

إذا عدنا إلى تأثير الحملة الفرنسية، ودور محمد على بعدها، فلابد أن نذكر «الأب» رفاعة رافع الطهطاوي (١٨٠١- ١٨٧٣م) الذي حمل مشعل النهضة العربية، فلم يختلف أحد من الدارسين والمؤرخين على قيمة الدور الذي أداه، ولو عدنا إلى لويس عوض لوجدناه يرصد جانبا من دور هذا الرائد العظيم في معركة التمصير والتعريب فيقول «في ٣ ديسمبر ١٨٢٨ صدرت «الوقائع المصرية» بلغتين متجاورتين: التركية والعربية، لتحمل قوانين الدولة وأخبارها وتوجيهاتها. وكانت توزع في صورة اشتراكات إجبارية على جميع موظفي الدولة ممن يتقاضون ألف قرش فأكثر شهريا.. ومجانا على فقراء الطلاب، فلما تولى رفاعة الطهطاوي رياسة تحريرها خاض معركة ليكون النص الأصلي «للوقائع المصرية» بالعربية، وأن تكون الصيغة التركية هي الترجمة. وقد انتصر سنوات، ثم طُرد من رياسة تحرير الوقائع، كذلك انتصر الطهطاوي في معركة أخرى وهي تحويله الافتتاحية إلى مقال في التربية الوطنية والسياسية والاجتماعية بعد أن كانت مجرد مدائح في عظمة الوالي وكمال صفاته، وهذه بداية صحافة الرأي في مصر.

هنا كان الدور الذي أداه رفاعة الطهطاوي باقتدار، ذي ثلاث شعب، أولا- إقصاء اللغة التركية وإحلال العربية محلها، ثانيا- وقف الأسلوب القديم في الكتابة وإحلال أسلوب جديد محله، ثالثا- توزيع الصحيفة على عامة الناس لقراءتها، أي نشر هذه اللغة الجديدة وتعميمها.

ورفاعة الطهطاوي، كان مهموما بأمر الكتابة العربية، منذ خرج من مصر، وشرع يسجل يومياته، فألف كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» وفيه اجتهاد واضح في نقل المصطلحات من الفرنسية إلى العربية، فمن بداية الكتاب، وضح أن مستويات اللغة في ذهنه ثلاثة: الأول – مستوى تراثي قُحّ، وهي لغة القرآن الكريم والشعر القديم، وتبدو جلية في مقدمته، والثاني- اللغة السائرة في زمنه، ومفرداتها عامية كما عند الجبرتي، ومثالها لديه كلمة «الأوضة». والمستوى الثالث هو اللغة الجديدة المناسبة لسرده للرحلة ومعالم الحضارة الجديدة، حيث واجهته كلمات: «كارنتينا» (الحجر الصحي) و«القزاز» (الزجاج) و«الغطورات» و«العربيات» (أي العربات التي تجر بالخيل) و«المحاشش» (أي الغرز وأماكن التعاطي)، هذا الجانب من اللغة وهو سيل الكلمات الجديدة والمصطلحات، والتعابير، جعله «يلجأ بغريزته إلى السبيل الوحيد المتاح له، فيعرّب الكلمة الأجنبية، أو يستخدم الكلمة العربية العامية» وسوف يحدثنا الطهطاوي نفسه عما واجهه من صعوبات لغوية حين نقل كتاب ديبنج Depping وأعطانا الطهطاوي في النهاية «مدرسة الألسن» التي عمل المترجمون فيها على نقل الكتب من اللغات الأوربية الحديثة، وسوف تبرز أعمالهم باكورات المشاكل اللغوية المعاصرة.

أحدث انتقال السوريين إلى مصر نقلة في خطوات النهضة، وكان عملهم في الفنون والصحافة، هو أبرز ما قدموه لتلك النهضة، يقول الدكتور لويس عوض «كان من الأسباب المباشرة لازدهار الصحافة في عصر إسماعيل هجرة عدد كبير من المثقفين والكتاب والفنانين الشوام إلى مصر نتيجة المذابح الدينية التي دبرها الباب العالي في لبنان وسوريا عام ١٨٦٠.

وقد تبنى إسماعيل هؤلاء اللاجئين السياسيين كجزء من سياسته العامة في مناوأة الباب العالي، والتعبير عن استقلال الإرادة المصرية، فأنشئت جريدة «الأهرام» في سنة ١٨٧٥ التي قدر لها أن تعيش إلى الآن» أما عن جمال الدين الأفغاني، فقد نبه لويس عوض إلى الغموض المحيط بشخصيته، وإلى التناقض الكامن في أفكاره، لكنه عزا إليه فضل الحصول على امتياز جريدة «مصر» التي أصدرها أديب اسحق، «وغذّاها بمقالاته فصارت شيئا مذكورا، وتحدث فيها الأفغاني لأول مرة عن «مصر الفتاة» فدخل هذا التعبير قاموس مصر السياسي، وعاش جيلا بعد جيل، وأوحى الأفغاني إلى يعقوب صنّوع بإصدار جريدة «أبونظارة زرقاء» التي صدرت أيضا في ١٨٧٧، وأوحى لأديب اسحق بإصدار جريدة أخرى في الاسكندرية باسم «التجارة» فأصدرها في ١٨٧٩، وساعد سليم عنحوري على إصدار جريدة «مرآة الشرق» في ١٨٧٩، ويخوّفنا الدكتور لويس عوض من خطورة القراءة المتعجلة لما كتب في تلك الفترة حول الاستقلال والحرية والدستور، لأن مصادر الفكرة لم تكن مصرية خالصة. لكننا نبحث في التأثير الفكري والثقافي، وخاصة ما أصبح منه إضافة لأساليب الكتابة وتنمية اللغة العربية.

في سوريا نشأت الصلة بين اللغة العربية ولغات أخرى عديدة نظرا لوجود «السُّريان» الذين كانوا واسطة بين العربية واليونانية منذ العصر العباسي، ولقد فطن الأوربيون لذلك الأمر ومن هنا أنشأ الباباوات الكاثوليك مدرسة للغات الشرقية في روما، «ففي عام ١٥٨٤ أمر البابا (غريغوريوس الثالث عشر) بإنشاء المدرسة المارونية» ثم تأسست مطبعتها الشرقية (١٦٥٣) … إن خريجي هذه المدرسة عرفوا في أوربا بأسمائهم اللاتينية، وأدرجوا ضمن كبار العلماء.

وفي نهاية القرن السابع عشر قدمت البعثات الدينية إلى سوريا فأقاموا أديارا وكنائس، فوجدنا مدينة حلب يزدهر فيها العلم والأدب ومنهم البطريرك «مكاريوس الحلبي» وهو أرثوزوكسي، وكذلك المطران «جرمانوس فرحات» الماروني الذي انتخب أسقفا لحلب عام ١٧٢٥، وقد سافر إلى أوربا فزار إيطاليا وأسبانيا وصقلية، له مؤلفات في النحو والمعاجم وديوان شعر، كما ترجم الإنجيل من اللغة السريانية إلى العربية، ومنهم الشماس «عبدالله زاخر» الكاثوليكي من أبناء حلب وانتقل لبنان، وهو مؤسس المطابع العربية في سوريا، وفي الشوير بلبنان.

أما مدينة حلب فقد قامت فيها نهضة علمية مسيحية، ففي القرن الثامن عشر أنشأ المطران جرمانوس فرحات المكتبة المارونية، وكذلك أنشئت بها المكتبة الملكية للروم الكاثوليك التي احترقت عام ١٨٥٠، والمكتبة السريانية كانت تملكها طائفة السريان الكاثوليك ذهبت أيضا في حريق عام ١٨٠٥، وأعيد بناؤها، ثم مكتبة بني الدّلال، كان فيها ٥٠٠ مجلد.

ومن العائلات المسيحية التي اشتهرت في حلب، منذ القرن الثامن عشر «آل المرّاش» وأولهم «بطرس»، ثم «فتح الله»، ثم «فرنسيس بن فتح الله المراش» المولود عام ١٨٣٦، درس الطب أربع سنوات، ثم سافر إلى باريس، وهو صاحب كتاب «غابة الحق» الذي عده بعض النقاد أول رواية عربية ظهرت في القرن التاسع عشر.

فإذا كان المسيحيون المتعلمون في حلب قد حملوا مشعل الأدب العربي إلى لبنان، فإن اللبنانيين – كما تقول د. سلمى الجيوسي- كانوا يريدون أن يصبحوا موظفين، فقد كانوا يدرسون العربية بنهم ونقلوا ما تعلموه إلى أبنائهم، وقد نشأت عوائل كاملة من الأدباء بهذه الطريقة، وكان من مآثر هذه العوائل مشاركتهم في النهضة اللغوية منذ بدايات القرن التاسع عشر. وأهم تلك العائلات: آل اليازجي، وآل البستاني، وآل الشدياق.

كانت اللغة في القرن التاسع عشر تُعلّم من خلال الكتب القديمة كالأجرومية وابن عقيل والأشموني والصبان، وكان ذلك في جو تكاثرت فيه المدارس المسيحية في بيروت، ولاسيما المدارس الأمريكية، فقربوا ناصيف اليازجي وعوّلوا عليه في تصحيح مسودات ترجمة التوراة وغيرها، فألف أرجوزة ومقامات وأخذوا في تعليمها في مدارسهم.

قبل مولد رفاعة الطهطاوي بعام واحد، ولد ناصيف اليازجي عام ١٨٠٠، وهو عميد بيت اليازجي، درس اللغة والطب والموسيقى، ومال للأدب، وقيل إنه قد حفظ القرآن الكريم، وديوان المتنبي، وقصائد عديدة من الشعر القديم. وهو أول من راجت كتبه اللغوية في المدارس العربية من المسيحيين، وقد تخرج عليه طبقة من الأدباء، وكان حجّة في اللغة، وهو شاعر مطبوع له أسلوب سهل، ألف كتابا في النحو، وكتابا في الصرف، وكتابا في العروض.

لقد ورّث الشيخ ناصيف أولاده حب العلم وخاصة اللغات، ومنهم ابنه حبيب (ولد ١٨٣٣) وهو صاحب ترجمة لقصة «تليماك» تأليف «فنيلون» القصة التي ترجمها رفاعة الطهطاوي أيضا. ومن أولاد الشيخ ناصيف ابنه خليل، وأشهر أبنائه هو «إبراهيم اليازجي» المولود في بيروت عام ١٨٤٧ الذي راجع ترجمة التوراة منذ عام ١٨٧٢، واشتغل في هذه المراجعة لمدة تسع سنوات، ثم اشترك في تحرير الفصول الأدبية في مجلة الطبيب، وأخيرا انتقل إلى مصر حيث أنشأ مجلة البيان، وتوفي عام ١٩٠٦، وأقيم له تمثال في بيروت عام ١٩٢٤.

لقد أسهم إبراهيم اليازجي في صياغة حروف الطباعة العربية، كما اهتم بتطوير اللغة العربية لتجاري روح العصر والتقدم العلمي، فاشتق ألفاظا اصطلاحية للمعاني العلمية، ولأن شعره كثرت فيه القصائد القومية فقد أطلق عليه «شيخ العربية والعروبة. وكان آخر زرع في دوحة بيت اليازجي السيدة وردة«.

عائلة مارونية أخرى هي عائلة البستاني، اشتغلت باللغة والأدب، وأشهر الأسماء فيهم «المعلم بطرس» ولد ١٨١٩، كان رئيس أساقفة صور وصيدا، درس على يد البعثات البروتستانتية اللغة العبرانية، وساعدهم في ترجمة التوراة، وهو صاحب أول دائرة معارف علمية عربية، هي «دائرة معارف البستاني» وعهد بها إلى ابنه سليم، وألف في الصرف والنحو كتبا تعليمية، وسليم ابنه، المتوفى عام ١٨٨٤، كان يعاون والده في تحرير مجلة «الجنان».

أما الماروني الأشهر في القرن التاسع عشر فهو «فارس الشدياق» (١٨٠٤- ١٨٨٧) كان أخوه أسعد معلما له، اضطهد ومات كمدا بسبب تغيير مذهبه الديني، فانتقل فارس إلى مصر، وأتم فيها علومه، وأصبح محررا في جريدة الوقائع. وربما كان إسهامه أحد أسباب تطور اللغة والأسلوب فيها، قام برحلة إلى مالطة، ثم شارك مع البعثة الأمريكية إلى لندن لترجمة التوراة، ثم تعرف على باي تونس، واعتنق الإسلام هناك فأصبح يعرف باسم «أحمد فارس الشدياق»، وأخيرا انتقل الشدياق إلى عاصمة الخلافة الآستانة، وهناك أصبح رئيس تحرير «الجوائب» أشهر المجلات الأدبية في القرن التاسع عشر.

كان الشدياق متبحرا في اللغة، وله أسلوب مميز في الإنشاء، ألف في اللغويات: «سر الليالي في القلب والإبدال» و«الجاسوس على القاموس» نقد لقاموس الفيروزابادي، و«غُنية الطالب في النحو والصرف» وأشهر كتبه «الفارياق أو الساق على الساق» كتاب لغوي فكاهي، عدته الدكتورة رضوى عاشور أول رواية عربية في الأدب الحديث، وتصنفها «رواية شارحة» أي أنها رواية تجعل من الكتابة موضوعا للكتابة.

لكن الساق على الساق كتاب ضخم، وصف فيه الشدياق أسفاره، وانتقد جماعة الأكليروس، انتقاما لما فعلوه بأخيه أسعد، بأسلوب جديد، لم يسبقه إليه أحد في اللغة العربية، لكن أهم ما فيه هو جهوده في جمع الألفاظ المترادفة في اللغة في مجموعات، كل موضوع على حدة، كأسماء الآلات والأدوات، وأصناف المأكولات والمشروبات، والحلي والجواهر، وأوصاف الرجال والنساء، ولقد أسهم أيضا في نقل المصطلحات العلمية إلى اللغة العربية، فقام بترجمة كتاب مدرسي بعنوان «شرح طبائع الحيوان».

*الدكتور إبراهيم منصور أستاذ النقد والأدب الحديث جامعة دمياط



Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *