الشيخ علي عبد الرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»

الشيخ علي عبد الرازق وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»


«كتاب الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبد الرازق، هو بحق أحد أبرز المعالم التنويرية فى مصروعموم العالم الإسلامى خلال القرن العشرين. وقد نتج عن ظهور هذا الكتاب الذى صدر سنة ١٩٢٥ اندلاع واحدة من أشهر المعارك فى تاريخ مصر الفكرى والسياسى، والتى نتج عنها – للأسف الشديد – محاكمة الشيخ على عبد الرازق، وطرده من زمرة العلماء، وعزله من وظائفه، وفصله من العمل كقاض شرعى، رغم أن دستور ١٩٢٣ والذى لم يمض على خروجه للنور قبل هذه المحاكمة سوى عامين نص صراحةً على حرية الرأى والتعبير، لكن ما جرى للشيخ كان نقيضا للنص الدستورى.

غلاف الكتاب

لم يكن أحد يظن ما سوف يُحدثه هذا الكتاب من جلبة وجدل شاع فى عموم البلاد، واختلافات فى الرؤى وصلت إلى حد الاحتدام والمطالبة بمحاكمة مؤلفه. الكتاب يناقش بجرأة وشجاعة قضية شائكة فى الأوساط الإسلامية ألا وهى مسألة الخلافة، الكتاب يخلص إلى أن نظام الخلافة ليس أساسا للحكم، وأنه ليس من الإسلام فى شىء، بخلاف الاعتقاد السائد آنذاك.

وهو ما أحدث ضجة غير مسبوقة فى مصر، إذ كيف لعالم أزهرى يرفض فكرة الخلافة ويدعو لمدنية الدولة، وهو ما أدى لنشوب معارك سياسية ودينية كبيرة، إلى جانب ما تلقاه الكتاب والكاتب من الكثير من النقد بالرغم من دفاع بعض المفكرين عنه. كانت معركة حامية بين المحافظين ودعاة التجديد، وانتقل الصراع إلى الرأى العام حتى انعكست آثاره وأصداؤه على الحياة السياسية فى مصر، وعرف الساسة كيف يتخذون من تهمة الإلحاد سلاحًا بتّارًا لم يترددوا فى إشهاره فى وجه خصومهم ليحطموا مكانتهم لدى الجماهير.

فقد باتت محاكمة الشيخ أمرًا جديًّا فى بعض الأوساط ودارت على صفحات المجلات آراء العديد من الكتَّاب، فانقسم المفكرون المصريون فى ذلك الوقت بين مؤيّد للكتاب وآخر معارض وساخط عليه، ومن أهم هؤلاء الساخطين: الشيخ محمد الخضر حسين الذى كتب كتابًا فى الرد على الشيخ على عبد الرازق بعنوان «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»، وفيه انتقد الشيخ على عبد الرازق وأعلن تغريبه.

دافع عن الكتاب الكثير من المفكرين، منهم الدكتور محمد حسين هيكل حيث كتب مقالاً شديد السخرية فى جريدة السياسة يسخر من القرار، كما استقال عبد العزيز فهمى من وزارة الحقانية فى وزارة زيور باشا فى ١٣ مارس ١٩٢٥ م، ووقف إلى جوار على عبد الرازق حتى ترك الوزارة احتجاجًا على الظلم، وكذلك دافع عباس محمود العقاد عن عبد الرازق فى مقال فى صحيفة البلاغ، وكتب سلامة موسى مقالاً فى جريدة المقتطف دافع فيه عن حرية الفكر والإبداع ورفض الرقابة الفكرية.

كما رأى محمود أمين العالم «أن كتاب الشيخ محمد الخضر حسين، كان يغلب عليه التملّق للملك فؤاد والتأييد لملكه، ولم تكن حجته فى معارضة كتاب الشيخ على عبد الرازق، على مستوى لائق من التماسك والعمق». وحين سُئِل طه حسين عن ذلك الموضوع الخطير وعن رأيه فى مقالة الشيخ على عبد الرازق فى كتابه قال: هذا رأيه وما كان يجب محاكمته بسببه. بل اعتبر طه حسين أن الملك كان وراء محاكمة الشيخ ويقر بأنه قرأ الكتاب ثلاث مرات وعدّل فيه، وقد استغلّ بعض الجاهلين ذلك الموقف وظنوا أن يكون طه حسين هو مَن ألف الكتاب أو دَسّ فيه معلومات خاطئه فقد كانت مساهمة طه حسين فى الكتاب هى إجراء بعض التنقيحات والتصويبات الموضعية، وخلاف هذه النقطة فإن طه حسين يؤمن بحرية الرأى؛ حيث كتب حول موضوع الشيخ مقالتين فى جريدة السياسة دافع فيهما عنه ونقد شيوخ الأزهر الذين حاكموه دون وجه حق.

استغلت الأحزاب السياسية ذلك الموقف فنرى حزب الاتحاد مناهضا لفكرة الشيخ على عبد الرازق، على الرغم من علاقته بحزب الأحرار الدستوريين الذى كان موجودا آنذاك فى نفس الوزارة الائتلافية مع حزب الاتحاد، ومن المعروف أن حزب الاتحاد يضم حوله قوى اجتماعية إقطاعية محافظة غير مستنيرة لا تبتغى سوى الحفاظ على مكانتها ومكانة مليكها.

وعلى الجانب الآخر انتصر حزب الأحرار الدستوريين لهذا الكتاب، واستعانوا بكل نظريات تراث الحرية اللبيرالية العالمى فى تأكيد حق المؤلف فى أن يجتهد، ودافع الحزب على صفحات جريدة «السياسة» -الناطقة بأفكار الحزب- والتى يرأس تحريرها محمد حسين هيكل والذى يؤكد فى مذكراته أن الأحداث التى مرت إِثْرَ نشر كتاب الشيخ على عبد الرازق – وكان قد أهداه الكتاب- واستحسنه هيكل وكتب عنه فى جريدة السياسة وأثنى على الطريقة البحثية التى استخدمها الشيخ فى تناول هذا الموضوع الشائك فهو كتاب لم يتجاوز التدليل على فكرة اقتنع بها صاحبها، وأورد على صحتها مختلف الأسانيد. فلو أنه كان مخطئًا لكان أكبر جزائه أن يتصدى له مَن يرد عليه، ومن يفنّد حججه وأسانيده، ومن يدلل على أن الخلافة أصل من أصول الحكم فى الإسلام.

ثم جاء رشيد رضا وكتب محرِّضًا: «أنه لا يجوز لمشيخة الأزهر أن تسكت عنه… فإن المؤلف… رجل منهم، فيجب عليهم أن يعلنوا حكم الإسلام فى كتابه… لئلا يقول هو وأنصاره إن سكوتهم عنهم إجازة له أو عجز فى الرد عليه»، وتقرر اجتماع هيئة كبار العلماء برئاسة شيخ الأزهر محمد أبو الفضل وحضور ٢٤ عالمًا كى تُناقِش أمر الشيخ على عبد الرازق، واجتمعت بصفة تأديبية بمقتضى المادة ١٠١ من قانون الجامع الأزهر والمعاهد الدينية العلمية الإسلامية رقم ١٠ لسنة ١٩١١ فى دار الإدارة العامة للمعاهد الدينية يوم الأربعاء ١٢ أغسطس ١٩٢٥ ونظرت فى التهم الموجهة إلى الشيخ وكتابه وقدمت عرائض وُقِّع عليها، وتضمنت أن: الكتاب المذكور يحوى أمورا مخالفة للدين، وللنصوص القرآنية، والسّنّة النبوية وإجماع الأمة، كما رأت الهيئة فى نشر الكتاب أمرا يتنافى مع كرامتها، ولذلك حكمت بإخراجه من زمرة هذه الهيئة، وألزمت السلطة المدنية، تنفيذَ حكمها، فتنظر فى فصله من منصبه فى القضاء الشرعى. كان عبد العزيز باشا فهمى، رئيس حزب الأحرار الدستوريين هو وزير الحقّانية، شكّل لجنة لتنظر الموضوع، فالقانون لا يقتضى فصل القاضى الشرعى وأحال الموضوع إلى قلم قضايا الحكومة لإبداء الرأى فأُقيل عبد العزيز فهمى من الوزارة، وتأزم الموقف فى حزبه وسرعان ما استقال زميلاه الآخران فى الوزارة. وكشفت هذه الأزمة عن صراع جاد داخل حزب الأحرار الدستوريين نفسه بين مؤيد للكتاب ومعارض إلى أن تم فصل الشيخ.

ومن الدراسات الحديثة عن «الإسلام وأصول الحكم»، نجد الشريف منجود قد تناول فى كتابه «تركه المثقف الثورى» رؤية الشيخ على عبد الرازق وكيف كان لها الأسبقية فى الثورة الفكرية التى حدثت فى فكر رواد عصر النهضة فى مصر وكيف أن أصبح هذا الكتاب أيقونة ثورية تواجه الفكر الدينى المتطرف. استطاع الشيخ على عبد الرازق أن يواجه المجتمع المصرى والإسلامى فى القرن العشرين، فقد كانت جرأة الشيخ على عبد الرازق فى كتابه «ظاهرة فذة فى تاريخ الجامع الأزهر» مما جعل ردود الفعل فى مثل هذه الحِدّة. واعتبر البعض صدور الكتاب أشدَّ وقعًا من قرار مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة؛ لأنه مجرد قرار سياسى لم يستهدف العقيدة مباشرة حسب قول بعض الفقهاء.. أما صنيع على عبد الرازق فقد كان محاولة للتغيير فى أصول الإسلام، ومسلَّماته. ودارت مشكلة مبحثه حول: هل منصب الخليفة ضرورى للمسلمين؟ بل هل هناك نظام للحكم فى الإسلام؟ ومِمَّ يستمد الخليفة سلطاتِه؟ من الله أم من الأمة؟. فهو أول كاتب مسلم فى العصر الحديث يسعى إلى زرع العلمانية فى العقل الإسلامى، وفى واقع المسلمين. ولقد كان أهم ما فى هذه المحاولة الوحيدة والفريدة، أنها قد جاءت فى صورة إسلامية، ومن عالِمٍ أزهرى، وقاضٍ فى المحاكم الشرعية الإسلامية. لذا ظل كتابه على «علمنة الإسلام» كتابا تاريخيا.

يخترق وائل غالى فى كتابه الأصول الإسلامية للعلمانية منطقة خطرة عن الشيخ على عبد الرازق وكتابه الذى أثار حالة من الرفض لدى هيئة كبار العلماء آنذاك وقدمت إلى مشيخة الأزهر عرائض وقَّع عليها جَمّ غفير من العلماء، وفحوى تلك العرائض أن: الكتاب المذكور يحوى أمورًا مخالفة للدين وللنصوص القرآنية والسّنّة النبوية وإجماع الأمة. من تلك النقطة استمد وائل غالى نقده لفكرة على عبد الرازق وربطها بالحبل السُّرّى لرحم الفكر الإسلامى المتجدّد الذى سبق على عبد الرازق وحاول أتباعه إثبات ذلك وتوطيد فكرة (اللاخلافة واللاحكم) فى الإسلام، استعرض خلال ذلك ابن حداد وكتابه الجوهر النفيس فى سياسة الرئيس وكتاب الأحكام السلطانية وكتاب أدب الدنيا والدين، وهنا يعدد وائل غالى مصادره التى جاءت بمثل ما جاء به على عبد الرازق؛ حيث إن التجربة السياسية فى الإسلام ذات تقاليد غنية ومتراكمة كما يعرف الجميع.

يُبرز غالى أهمية كتاب (الإسلام وأصول الحكم) فى أنه أول دعوة عربية إسلامية حقيقية واضحة المعالم تؤصل لفكرة الإسلام العلمانى؛ جاءت تلك الدعوة من عالم أزهرى، صدر الكتاب بعد انهيار الخلافة العثمانية فى الأستانة؛ فكان صداه أشد من قرار مصطفى كمال أتاتورك بإلغاء الخلافة؛ لأنه مجرد قرار سياسى لم يستهدف العقيدة مباشرةً حسب قول بعض الفقهاء، فيكتب أحدهم: برغم ما فى هجمة أتاتورك وجنايته على الإسلام من الضراوة والقسوة والشراسة فإن جناية على عبد الرازق فى كتابه أشد خطرا؛ فصنيع أتاتورك رِدّة صريحة وخروج على الإسلام بقوة السلطان فلا يكون لها أثر إلا بقدر بقاء القوة أما صنيع على عبد الرازق فقد كان محاولة للتغيير فى أصول الإسلام ومسلّماته.

إن قضية الخلافة ما زالت حتى اليوم تسكن بطون الكتب. والأبحاث منذ أن طرقها الشيخ على عبد الرازق وقبله وبعده ربما يسعون دائما للكشف عن حقائق ومصالح كثيرين يحاولون أن يتخذوا من الدين دروعا تحمى عروشهم وتُقصِى الخارجين عليهم وتُزيل أى ثورة وتُعاقب أى رافض؛ حتى يصبح الصوت الواحد اللاهوتى هو المفروض دون علم أو إيمان، كل هذا حاول إيجاده وائل غالى.




Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *