إسلام وهبان يكتب: «خطوب ودروب».. عودة للأدب الساخر
فى الأيام الأولى من شهر مارس 2023، أُثيرت حالة من الجدل داخل المجتمع البريطانى والأوساط الصحفية والسياسية المحلية والدولية، بعد نشر صحيفة «ديلى تلغراف» نصوصًا لمحادثات ورسائل صوتية تزيد عن 100 ألف رسالة صوتية لوزير الصحة البريطانى الأسبق، مات هانكوك، وعدد من مسؤولى الصحة والبرلمانيين فى بريطانيا، والتى سربتها الكاتبة الصحفية الشهيرة إيزابيل أوكشوت، بعد أن انتهت من كتابة مذكرات لوزير الصحة البريطانى، تحت عنوان «يوميات الوباء: التفاصيل الداخلية لمعركة بريطانيا ضد كوفيد». الأمر الذى اعتبره «هانكوك» بمثابة خيانة عظمى وخرق لقوانين السرية والأمانة من قِبل «أوكشوت»، فيما ردت الأخيرة بأن تصرفها يصب فى خانة «المصلحة الوطنية الكبرى».. وبعيدا عن الاتهامات المتبادلة بين «هانكوك» و«أوكشوت»، وحالة الجدل التى صحبتها تلك الواقع- التى اعتبرها الكثيرون بمثابة فضيحة سياسية- إلا أنها تعكس مدى تأثير وسائل التواصل الاجتماعى وقدرتها على إحداث زلزال سياسى أو تغييرات كبرى فى الحياة العامة.
وفى كتابه الأحدث «خطوب ودروب»، يرصد الكاتب الصحفى المصرى محمد شبراوى تأثير منصات التواصل الاجتماعى على حياتنا اليومية ومدى التغيرات التى لحقت بالمجتمعات نتيجة استخدام «السوشيال ميديا»، وكيف تعامل مستخدمو هذه المنصات مع كثير من القضايا والأزمات أو «التريندات»، فضلا عن أثر العالم الافتراضى على واقعنا المعاش، وذلك من خلال تحليل العديد من المواقف والأحداث البارزة فى الحياة العامة وتتبع كثير من الوقائع والظواهر التى طرأت على الأوساط الثقافية، خاصة محليا وإقليميا ودوليا، وعلاقتها بوسائل التواصل الاجتماعى، ومحاولة فهم الحاضر من خلال إعادة قراءة التاريخ وتفكيك ذلك التشابك بين عالم مارك زوكربيرج وما نعيشه على أرض الواقع.
يتناول الكتاب الذى جاء فى 200 صفحة من القطع المتوسط، ومن خلال 19 مقالًا، العديد من الموضوعات والقضايا المتعلقة بخطورة الكلمة وتأثيرها على منصات التواصل الاجتماعى، ورصد العديد من الظواهر الأدبية وكيف تغير المشهد الثقافى بفعل هذه المنصات أو من خلالها، حيث يناقش المؤلف أشكال تسليع الكتاب، وتأثير العالم الافتراضى على العملية القرائية من خلال ما يعرف بتحديات القراءة، والحالة التسابقية التى أصابت فئة كبيرة من القراء عبر صفحات وجروبات القراءة، وتحول عدد الكتب التى قرأها الفرد لمجرد رقم للتفاخر أمام الآخرين حتى ولو من خلال المبالغة فى هذه الأعداد. كما يناقش الكتاب فكرة ورش الكتابة الأدبية ومدى جديتها واستغلال بعض الكُتاب والمنصات لهذه الظاهرة لتحقيق أرباح أو مكاسب مادية أو كما يعتبرها البعض مجرد «سبوبة»- وفق التعبير الشائع حاليا فى الأوساط الأدبية والصحفية- يتم من خلالها استغلال الشباب والمبتدئين فى عالم الكتابة واستنزافهم ماديا، بدعوى تعليمهم فنون كتابة الرواية فى وقت قياسى قد لا يتعدى بضعة أسابيع أو أشهر!!!.
تأتى اللغة فى كتاب «خطوب ودروب» لتمثل حجز الزاوية والركن الركين، حيث اعتمد محمد شبراوى على لغة فصيحة ثرية وتراكيب لغوية مناسبة وتلاعب ذكى بالمرادفات والمعانى والاهتمام بشكل ملحوظ بالجانب البلاغى والتناغم ما بين الإيجاز والإطناب والوصل والفصل، على نحوٍ يبعد عن قارئ الكتاب الشعور بالملل ويزيد من رغبته فى الغوص فيه وفى حكاياته، ففى أوقات تشعر بأنك أمام ثرثرة الجدات وحكايات وأخبار السابقين، لكنك فى الوقت نفسه تجد نفسك مستأنسًا لحديث، لأن كل وصف وكل حكاية تربطك وتحيلك إلى واقعنا الذى نعيشه، حيث يأخذنا الكاتب بين دفتى هذا الكتاب فى مواقف شتى، يتوسل بالتراث والمعاصرة لرصد أحداث وثيقة الصلة بالعالم الافتراضى، ليجمع الكتاب بين الطارف والتالد، فيأخذنا فى جولة مع الجاحظ وابن قدامة والمبرّد والقالى، مرورًا بطه حسين والمازنى ونجيب محفوظ والسحّار ورجاء النقاش، وصولًا إلى الكتّاب الجدد.
يقدم الكتاب كمًا هائلًا من المعلومات من خلال استعراض المؤلف للعديد من الوقائع والأحداث البارزة التى تصدرت منصات التواصل الاجتماعى عالميا، خلال السنوات الماضية، أو حتى لقصص شغلت الناس منذ عقود وألقت بظلالها مرة أخرى بفعل «السوشيال ميديا»، مثل واقعة «هانكوك» التى ذكرناها فى أول المقال، أو المزحة التى كلفت رجل الأعمال البريطانى جيرالد ريتشارد راتنر ثروته جُلِّها، وكيف أدت تصريحات عالم الأحياء جيمس واتسون العنصرية إلى تجريده من ألقابه وبيعه لميدالية «نوبل» بعد فوزه بها، وكيف تغيرت نظرة عبد القادر المازنى للكتب. مواقف وحكايات وقضايا وإسقاطات وإشارات عدة يستعرضها المؤلف أمام القارئ، تتشابك وتتضافر لتعطى صورة واقعية لما نعيش عليه فى عصر الميتا فيرس.
وعلى الرغم من اللغة الرصينة والثرية التى استخدمها الكاتب، إلا أن من يطالع كتاب «خطوب ودروب» يتلمس الحس الساخر الذى يغلب عليه، فتجد استخداما للإيفيهات والجمل الغنائية، وتوظيفا دقيقا ورائعا للأمثال الشعبية، سواء المصرية أو الخليجية أو التراثية، لتتحول صفحات الكتاب إلى قاموس للأمثال الشعبية، بشكل جعلنى أبحث عن أصل هذه الأمثال وأتتبع مقصدها، كما تعمد المؤلف تطعيم مقالاته فى الكتاب بالعديد من الأبيات الشعرية المتنوعة، بما يتناسب مع المواقف والأحداث، فضلا عن العبارات المأخوذة من الأفلام المصرية الشهيرة، والتى تضفى روحا من الفكاهة للقارئ وتعيده إلى الأدب الساخر وكتابات أحمد رجب ومحمود السعدنى وجلال عامر.
يتطرق الكتاب إلى العديد من القضايا التى تشغل الوسط الثقافى، والتى من بينها دور المحرر الأدبى فى العملية الإبداعية، ولماذا يختلط دوره بدور المؤلف، وكذلك المصحح اللغوى، ولماذا يستعجل كثير من الكُتاب على قرار النشر، وما هى أسباب خلود بعض الأعمال الأدبية ونشرها لعقود ونسيان بعض الكتابات ومحوها حتى ولو بيع منها آلاف النسخ، كيف يناقش الكتاب تأثير الشهرة على المبدع، وكيف أثرت منصات التواصل الاجتماعى والشهرة على الحالة الإبداعية وجودة النصوص المطروحة خلال السنوات الماضية. فضلا عن التضخم الأدبى والإعلامى وفوضى إبداء الرأى والمشاركة التى تعانى منها الأوساط الثقافية مؤخرا.
خلال قراءتك لهذا العمل ستجد نفسك فى رحلة حول العالم وعبر الزمن فى محاولة لفهم ما وصلنا إليه، من مصر إلى بريطانيا، ومن فنلندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومن فرنسا إلى المكسيك، ومن تيك توك إلى تويتر، ومن زمن هارون الرشيد إلى زمن إيلون ماسك، كما يأخذك الكتاب فى رحلة بين عناوين مئات الكتب والمؤلفات، ليكون بمثابة قائمة ترشيحات للقراء فى السياسة والأدب والسيرة والفكر وكتب التراث.