أشرف قاسم يكتب: رسائل نجلاء خليل.. لغة المتصوفة وصورة العاشقين
يلجأ الإنسان إلى كتابة الرسالة بداية للتواصل مع الآخر، ربما لطمأنته، أو للاطمئنان عليه، تحمل الرسالة رائحة الحنين، وذكريات تجمع بين الأنا والآخر، ذكريات قد تكون موجعة، وقد تكون مورقة ببتلات الفرح، هذه الرسائل فى النهاية هى الأثر الذى يبقى من قصة اثنين جمعت بينهما الأيام.
لا تختلف الرسائل الأدبية كثيرًا عن الرسائل البريدية، فكلاهما شكل من أشكال التواصل، ربما تختلف اللغة، التعبير، المنحى التفاعلى، ولكن يبقى التواصل هو الهدف الأسمى من كليهما.
تبنت وارتضت الأديبة السكندرية نجلاء خليل شكل الرسائل للتعبير عن هواجسها، ومكنوناتها النفسية، ولكن من خلال لغة تحمل طابع التصوف، بما يحمله من رموز وإشارات روحية سماوية، تتبادل فيها الحواس أماكنها بغية التعبير بشكل مختلف، دون أن يخل هذا التبادل بنسق الجملة الشعرية، ومدلولاتها، ودون أن يأخذ النص إلى مناطق معتمة، قد تصيب المتلقى بالعجز عن التواصل مع النص، وذلك من خلال تركيب الصورة الشعرية المغايرة الطازجة بكثير من السلاسة والوضوح.
من خلال تلك اللغة الصوفية، وتلك الصورة الشعرية الطازجة ترسل نجلاء خليل رسائلها /نصوصها/ إلى متلق يبحث عن جوهر الشعرية فى النص، ليستكشف فى النهاية أنه أمام «تابلوهات» فنية مدهشة، تكونها اللغة، والصورة، والموسيقى، لوحات تشبه منمنمات الأرابيسك فى فنيتها وتكاملها وجمالها الأخاذ:
لى البوح، ولك الرسائل والأسئلة، وما بين قلبى وقلبك بعد سحابة، وجبال من الثلج، وألف امنية للذوبان
«ما بيننا خطوتان ص ٢٣»
هذه اللغة الروحية المشعة بأنوار اليقين استطاعت أن تحمل هواجس الإنسان وآلامه وأحلامه بشكل غير مباشر، بعيد عن الخطابية الفجة، وبعيد عن عادية اللغة اليومية الخشنة:
كيف تركت يدى مصلوبة عند آخر السلام، كأسطورة حمقاء لم يعد لديها ما تحكيه؟
كعصفورة تحطم عشها على غصون الغياب؟
كيف تسللت من بين أصابعى؟
لم تجرؤ على النظر فى عيوني
ولم تدر وجهك
وأنا تركتك ومضيت
وتركت قلبى معلقًا على أشجار الرصيف
«فى حضرة الهيام ص ٥٤»
تختلف ثنائية المرسل والمستقبل / المتكلم والمخاطب/ حسب توجه الرسالة وتعاطيها مع الواقع، فهى أحيانًا تكون مناجاة بين محب ومحبوب، وأحيانًا تكون بوحا محضا يشبه الفضفضة بين عاشق ومفتقد، وربما جاءت رصدا لأثر غياب، أو ترجمة لمشاعر مكبوته تجاه الآخر البعيد، والذى ليس بالضرورة أن يكون إنسانا، ربما كان البحر، وربما كان نورسا يحط على صخور الشاطئ حينا ثم يغيب، ولكنها فى كل حالاتها تتكئ على روح إنسانية شفافة، ترى الآخر بعين القلب، وتشاركه همومه ومشاعره: أكتب إليك بقلب أوشك على النهايات، ولا يتذكر غير وجهك، ولا يكتمل فى غير عينيك، ويغفو قليلًا على مقعد النسيان
«رسائل خاصة لسيدة الوجد ص ٣٣»
وبعيدًا عن تأثر الكاتبة ببيئتها السكندرية، وتماهيها مع البحر بمفرداته، وهذا طبيعى، فإن لغة نجلاء خليل بشكل عام تميل إلى الحس الرومانسى الذى يؤنسن الأشياء ويغرق فى تفاصيل اللحظة التى يقبض عليها، ليخلق من عدم الصمت حياة ملؤها الضجيج والمرح، هذا على الرغم من ميل تلك اللغة إلى مفردات الحزن والأسى والغياب، ولكنها عبر شفافية لغتها تعطى المتلقى انطباعًا مختلفًا حيث يرى الأشياء من منظور مغاير:
أخرج من ضوضائى إلى ضوضاء الهدير
أفرد يدى لأحتضن الموج، وأسبح ضد التيار
حزمت ذكرياتى، وتركتها على الشاطئ
وتركت التصرف للمد والجزر والانحسار
«فى حضرة الهيام ص ٢٩»
بتضافر اللغة والصورة الشعرية والخيال تنتج نجلاء خليل نصا منفتحا على فنون أخرى كالرسم والموسيقى، مما يعكس ثقافتها الواسعة، وخبرتها فى تضمين النص عناصر تثريه وتجعله قابلًا لتأويلات متعددة، وتتيح للمتلقى مساحة من الحرية لتقليبه على عدة وجوه، دون تحميله بحمولات زائدة:
بلا سرج ولا لجام منطلقة روحى، أحبس الإعصار فى عيونى، واسافر فى المدى أحمل الريح، وأخزن حبك لبرد الشتاء، وأصنع سلالم للأمنيات، فبالله عليك لا تحضر حتى يكمل زامفير اللحن، ولا تخايلنى على النوتة الموسيقية حتى أكمل الهروب
«ما بيننا خطوتان ص ٩٢»
إن شعرية اللغة على الرغم من نثرية النصوص هى التى تضع نصوص نجلاء خليل فى دائرة الضوء، وتعطى تجربتها أهمية كبيرة فى المشهد الإبداعى الراهن، نصوص تحمل ملامح المرأة وهمومها، وما يكتنف نفسية الأنثى من غموض واشكاليات نفسية متعددة، مكتوبة بلغة الأنثى البسيطة، البعيدة عن التعقيد، التى تجنح أحيانًا إلى الفضفضة، والحشو، ولكنها لا تتخلى عن شعريتها وجدتها الواضحة.