طارق العمراوي يكتب: التدليل الأثرى والحضارى من خلال «نقوش جبل أم جذايذ النبطية»

طارق العمراوي يكتب: التدليل الأثرى والحضارى من خلال «نقوش جبل أم جذايذ النبطية»


كتب الباحث سليمان بن عبدالرحمن الذييب دراسة تحليلية عنونها بـ«نقوش جبل أم جذايذ النبطية» قدم فيها مادته الأثرية بمنهجية باحث متمكن من مادة عمله والمتمثلة فى دراسة ٢٣١ نقشًا موزعة زمنيًا فى القرون ١ و٢ و٣ ميلادية وبجبل أم جذايذ التابع لمنطقة العلا الغنية بالمواقع التاريخية والأثرية التى ساهمت فى تقديم عديد المعطيات والمعلومات عن الأنباط، وقد حاولنا فى هذه الدراسة تتبع مسار البحث عبر قراءة مصادره وعمله كباحث وجدل الحضارات كعنصر ثابت نتابع به كل الباحثين وكل الحضارات.

الباحث:

كان الباحث سليمان بن عبدالرحمن الذييب فى نصه «نقوش جبل أم جذايذ النبطية» محملًا بأدوات عمل ومنهجية بحث ورؤية تلمسناها من بداية الكتاب حتى آخره التزم فيها بجملة شروط قادته إلى نتائج بحث عظيمة.

فبعد تأطيره التاريخى للنقوش التى درسها وحللها وبحث فى الموطن الأصلى للأنباط وتحضرهم وعلاقتهم بالآخر مناقشًا فى كل هذا بعض المصادر القديمة والدراسات الحديثة ومن معاوله المعرفية والمنهجية التساؤل والأسئلة التاريخية والمنهجية المعروفة والتى تطرح كلما طرح أصل الأنباط، يقدمها الباحث تباعًا، يحللها، يرد عليها معتمدًا دلائل جغرافية كالهجرة، التشابه فى بعض النواحى العمرانية، المخلفات الأثرية، المسح الأثرى، إذ يعدد من السؤال القابل لعدة احتمالات.

«إلا أن السؤال المطروح هو من أين جاءت هذه القبائل العربية النبطية؟ فهل هى أصلًا قبائل بدوية عاشت فى المنطقة نفسها؟ أم قبائل مهاجرة من مكان آخر دفعتها ظروف معينة إلى الاستقرار فيها؟ فالبعض يرى أنهم أصلًا من منطقة أدوم، بينما يرى البعض الآخر أنهم من شمال نجد وبالذات من جبال حائل، ورأى بعض المختصين أنهم قدموا من جنوب شبه الجزيرة العربية، ويعتقد آخرون أن موطنهم الأصلى هو شمال شرقى شبه الجزيرة العربية، بينما ترى مجموعة أخرى من الباحثين أنهم من وسط غرب شبه الجزيرة العربية» (١) كما يلتزم عالم الاحتمالات فى قراءته نصوص النقوش بل يعلن كم من مرّة صعوبة تفسير بعض الكلمات «ك ى م» يقول «علم يعرف – حسب معلوماتنا للمرة الأولى فى النقوش النبطية، لكنه جاء بهذه الصيغة فى النقوش الصفوية.. الجدير بالذكر أن القراءة المعطاة من قبل ونيت وهاردنج لهذا العلم ك خ م، هى قراءة خاطئة»(٢) وحتى قراءته هو يترك لها مجالًا للنقد، ففى النقش ٢١ يقدم قراءة بتحفظ واستعان بغيره من الباحثين كالدكتور طلعت زهران أستاذ اللغة اليونانية فى تفسير إحدى كلمات النقش رقم ٢٥.

وبعيدًا عن حرفية الاطلاع والتحليل نلمس الإحساس الفنى للباحث المعلق على جمالية النقوش ورسومها وحروفها أو ما كان سيئًا منها.

المصادر

برغم اعتماد الكتاب على المصدر الأثرى والمتمثل فى دراسة ٢٣١ نقشًا إلا أن مقدمته انفتحت على المصادر الأدبية المكتوبة ومنها الحوليات والعهد القديم وهيرودوت وديودور الصقلى وسترابو ومصادر معاصرة ودراسات حديثة فرضت على الكاتب وهو يبحث فى الموطن الأصلى للأنباط الرجوع إلى المصادر الكتابية القديمة كالحوليات الآشورية والعهد القديم أو فى حديث ديودوروس الصقلى عن الحملتين العسكريتين اللتين قام بهما أنتيجونوس antigonus ضد الأنباط أو استشهاده بالكتابات الكلاسيكية عندما يقول: «وترى أن لمعرفة الموطن الأصلى لهذه القبائل العربية النبطية يجب علينا أن نأخذ بالاعتبار ما ورد فى المصادر والكتابات الكلاسيكية (مثل سترابو الذى أخذ معلوماته عنهم من صديقه الفيلسوف أثينودوس الذى ولد وعاش بين الأنباط) التى تحدثت عنهم (فى بداياتهم) بشكل تفصيلى»(٣) ودراسات جامعة emory وغيرها من النصوص الحديثة.

المصادر الأثرية منها ٢٣١ نقشًا والخزانات والصهاريج وعمارة المدن والخراطيش الفرعونية والنقوش العربية.

غلاف الكتاب

قبل تعليقنا على دراسته وتحليله لنقوش جبل أم جذايذ كانت الدلائل الأثرية متعددة نص هيروغليفى على خرطوشة فى معبد آمون «يذكر أن العرب هم «هجر»، وبما أن «هجر» هى الهفوف قديمًا فإن الأنباط هم الهجرانيون الذين أدوا دورًا تجاريًا بين الخليج العربى ومصر، ونقش آشور بانيبال الذى ذكر فى حولياته والنقوش العربية التى يقول عنها عند تحليله منطقة الهفوف فى الأحساء، وهل هى الموطن الأصلى للأنباط «التشابه والتقارب اللغوى بين الجماعات العربية التى خلفت نقوشًا عربية عرفت باسم proto –Arabic وجدت فى أور ونيبور وأورك وأبوصليوخ والنقوش العربية المعروفة فى تاج والهفوف وعين جاوان مع الآرامية والنبطية» (٤) كما استشهد بالصهاريج التى تحفظ فيها مياه الأمطار، وقد عرف الأنباط بحفر خزان ذى فتحة صغيرة نسبيًا مقارنًا إياها بصهاريج جنوب شبه الجزيرة ذات الأشكال المستطيلة أو الدائرية ولأهمية الفخار كمخلفات أثرية قدم مثالين الفخار الأدومى والفخار النبطى.

لنبسط الآن عالم النقوش النبطية التى أطال الباحث فى تحليلها ودراستها ومقارنتها، وقبل التطرق إلى مضامين النقوش كان لزامًا وصف وضعيتها المادية أين تسببت العوامل الجوية وتعرض الصخور للشمس لفترة طويلة إلى بداية اختفاء علامات بعض النصوص كما فى مثال النقش رقم ١٤ أما النقش رقم ١٩ فالصخرة التى كتب عليها هذا النص مكسورة.

والوضعية الجمالية المرتبطة بالخطوط والكتابة والرسوم فمنها من كان صاحب النقش يملك قدرة جيدة على الكتابة النبطية، أسلوب كتابة حسن لحروف النقش التذكارى القصير فى النقش رقم ١٣ كما علق على الحروف الكبيرة نسبيًا وأخرى صغيرة متشابكة ومن ارتكب بعض الأخطاء فى تحليله النقش ٤٤ عندما يقول «ارتكب كاتب هذا النص التذكارى القصير خطأين، أولهما: إضافته حرف الواو للاسم المفرد المضاف س ل م، «تحيات».. إذا اعتقد فى البداية أنه يكتب اسمه وثانيهما كتابته بأسلوب سيئ للحرف الرابع فى العلم الثانى» (٥) ومن النقوش النادرة كتابة نقشين ١٩٥ و١٩٦ داخل إطار دائرى فى النقوش النبطية لكن هذا الشكل معروف فى النقوش الثمودية وأسلوب الكتابة غير المتقنة والرسوم غير المتقنة كما فى النقش رقم ١٥٢ أين تظهر آثار رسومات حيوانية سيئة والنقش رقم ٢٠٩ يحتوى على منظر صيد غير متقن يمثل شخصًا يمتطى فرسا ويلحق بوعل. أو رسوم جيدة لجمل مثلًا فى النقش رقم ٧٨

أما مضامين هذه النقوش فمنها الأعلام وأسماء الآلهة وأسماء القبائل وأسماء الأماكن وأسماء الشهور والأرقام وبعض المضامين الاجتماعية.

وفى دراسته نصوص وكلمات النقوش احتاج إلى النقوش المتنوعة واللغات القديمة ومنها العربية كاحتياجه للمعاجم العربية مثل الفيروزآبادى وابن منظور، والنقوش الصفوية والسامية والأوجارتية والتدمرية والثمودية والبابلية والحضرمية والمعينية والقتبانية

جدل الحضارات

إن إشكاليات موطن الأنباط وتحضرهم ونقوشهم فى علاقتهم بالحضارات المجاورة أو الغازية كانت متناثرة منذ مقدمة الكتاب حتى آخره ابتداءً بالنظام المائى وهو يدرس الموطن الأصلى للأنباط فى الفصل الأول، إذ يقول: «ويقترح البعض أن جنوب شبه الجزيرة العربية هو موطن الأنباط وأنهم هاجروا منه بعد انهيار سد مأرب خلال القرن الخامس قبل الميلاد، وذلك استنادًا إلى التشابه فى بعض النواحى المعمارية بالذات فى النظام المائى المتبع لدى الأنباط وقبائل جنوب شبه الجزيرة العربية» (٦).

ويطرح الباحث هنا إشكالية جدل الحضارات من خلال مثالين هامين أولهما الاحتكاك الذى ينتج عملية التأثير والتأثر كما فى مثال «فلو أن الأنباط على علاقة عرقية بالهجرانيين لنقلوا معهم المفاهيم الحضارية المتعددة التى اكتسبوها نتيجة احتكاكهم بالمراكز الحضارية فى جنوب بلاد الرافدين» (٧) والمثال الثانى سياسة القوى التى اعتدنا فيها فرضه معتقداته وتدينه ورموز حضارته المعمارية والفنية لكن هنا سياسة المنتصر والقوى تترك الآخر المنهزم يبرز حضارته ومفاهيمه المحلية، إذ يقول الكاتب: «وهكذا ترك الأهالى المحليون فى شمال الحجاز من قبل الفرس يبرزون مظاهرهم الحضارية الخاصة بهم، لكن هذا لا يمنع من وجود تأثيرات إخمينية على المظاهر الحياتية المختلفة فى المراكز الحضارية الخاصة المهمة مثل العلا وغيرها سنراها عندما تقام حفريات أثرية فعالة فى المنطقة» (٨) واستنادا إلى دراسات بيتربار على فخار قرية المطلى والعائد إلى الألف الثانى ويحمل تأثيرات مصرية.

كما استطاع الباحث وهو يدرس كلمات النقوش التعرض إلى التأثير الإغريقى فقد عدد من هذه الكلمات ففى النقش رقم ٦ كان اسم مفرد معرف يعنى القائد والنقش رقم ٢٢ علم إغريقى الإشتقاق لأول مرة فى النقوش النبطية وفى النقش رقم ٢٥ كلمة يونانية تعنى الحارس. ونظرا لرواج القلم النبطى فى تلك المنطقة يحلل الباحث هذه الفكرة فى دراسته النقش (رقم ٨٥ ) إذ يقول: «..وذكر هذه الأعلام فى نص واحد يشير إلى احتمال أن يكون أصحاب هذه الأسماء يعودون إلى إحدى القبائل الثمودية أو الصفوية وقد اختاروا الكتابة بالقلم النبطى عوضا عن قلمهم الثمودى أو الصفوى لأنه الأكثر رواجا آنذاك فى تلك المنطقة»(٩)

إن كتاب «نقوش جبل أم جذايذ النبطية» للباحث سليمان بن عبدالرحمن الذييب كانت مادته الأولى نقوشًا نبطية بحث فى مضامينها، حالتها المادية والفنية، كتاب هذه النقوش وأصولهم ومواطن سكناهم وكيف أثروا وتأثروا ببيئتهم الحضارية أعمل الباحث فى كل هذه الإشكاليات معاول معرفية ومنهجية استطاع بها فهم مادته وتحليلها ودراستها.




Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *