د. منال رضوان تكتب: مؤلفان من كنوز السلف فى ذكر تاريخ الأمم «المعارف» لابن قتيبة و«جامع التواريخ» للهمذانى
بين أيدينا كتابان لذكر تواريخ الأمم السالفة وأخبارهم وآثارهم، وقد ألف أولهما، ونعنى به كتاب «المعارف» خطيب أهل السنة والجماعة الإمام ابن قتيبة أبى محمد عبد الله بن مسلم، وثانيهما «جامع التواريخ» وهو للطبيب والمؤرخ رشيد الدين فضل الله الهمذانى، تناول فيه تاريخ المغول الإيلخانيون، وسنعرض فى السطور التالية النزر اليسير من بعض القطوف التى تقدم عرضًا موجزًا مختصرًا لهذين العملين المهمين.
الكتاب الأول المعارف لابن قتيبة، ومؤلفه هو الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينورى، المولود فى عام ٨٢٨ ميلادية ببغداد، وتذكر المراجع أنه لم ينتقل منها إلا إلى دينور.. حتى وفاته فى عام ٨٨٩ من الميلاد، وهو عالم موسوعى المعرفة، عاش حياته إبان حكم الدولة العباسية، كما أن له العديد من المؤلفات التى تذخر المكتبة التراثية العربية بها، كـ«عيون الأخبار» و«أدب الكاتب»، وإن نسبت إليه بعض المؤلفات، ككتاب «الإمامة والسياسة»، وهو المؤَلف الذى اختلف العلماء حول نسبته إليه (ينظر مقدمة المعارف ثروت عكاشة ص ٥٦)، كما كان خطيبًا بارعًا، لقب بخطيب أهل السنة والجماعة حتى قيل فيه: «إنه فى أهل السنة بمنزلة الجاحظ عند المعتزلة»، وإن كان ابن قتيبة قد تميز بقوة البيان والقدرة على تفنيد الحجج، كذا تعددت المجالات التى كتب فيها، إذ إنه ألف فى التاريخ وعلوم التفسير وعلم الكلام، وليس هذا وحسب، إنما له من المنجز الأدبى تلك الذخيرة العامرة بأنساب وأخبار السلف، والتى حققها وقدم لها فى عدة طبعات منقحة ومزودة نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الثقافة المصرى الأسبق، الأديب الكبير الدكتور ثروت عكاشة، وما هذه التحفة الأدبية التراثية التى نقصدها إلا كتاب «المعارف» لابن قتيبة، والصادر عن سلسلة الذخائر بالهيئة العامة لقصور الثقافة، وقد طبعت هذه النسخة الحديثة والمزودة بصور (زنكو غراف) بتصريح من مؤسسة دار المعارف المصرية.
وكتاب «المعارف» ثمرة من ثمار ابن قتيبة، تحمل سمات العصر الذى كان يعيشه صاحبه، فوسط اضطرابات وقلاقل بين الأعاجم والعرب من ناحية، وكثرة الكتب المنقولة عن لغات أخرى، بدا أثر سطوع مناهج حديثة فى التأليف، تميزت بالميل إلى التأليف الجامع لموضوعات مختلفة، ثم الاستطراد فى كل موضوع على حدة عقب ذلك، ومن الملاحظ أن د. ثروت عكاشة قد تحدث فى مقدمة طويلة عن هذا المنجز، والذى سبقته إليه طبعة أولى للمستشرق «أ. ف وستنفيل»، بجونتجن، فى سبتمبر سنة ١٨٥٠م، وطبعة ثانية فى سنة ١٩٣٤م. وإن كانت هاتان الطبعتان ينقصهما الكثير من مقومات التحقيق مع كل ما بذل فيهما من جهد ومشقة فى الجمع والتوثيق، لكن هناك ثمة مخطوطات لم يرجع إليها، على العكس من هذه الطبعة، والتى تميزت بمقدمة دارسة، وشروح مبينة، وتعقيبات موضحة، ثم فهارس جامعة شاملة للشخصيات والمراجع والأمثلة، بل والقوافى أيضا.
وكتاب المعارف تحدث- فى مجمله- عن بدء الخلق منذ آدم عليه السلام حتى سيدنا محمد (ص) وأنساب العرب وأخبار السلف وأسماء الخلفاء، وأحوال الشعراء، وذكر الأيام المشهورة، وقصص أقوام جرى المثل بأسمائهم.
مما جعله مكتبة معرفية قائمة بذاتها وارفة الظلال، يانعة الثمار، مليئة بالدروس والعبر، تتميز بالحرص الشديد فى الفهرسة والتبويب.
أما الكتاب الثانى، فهو: جامع التواريخ لرشيد الدين فضل الله الهمذانى. للطبيب والمؤرخ رشيد الدين فضل الله الهمذانى، المولود فى همدان عام ١٢٤٧، والمتوفى بتبريز عام ١٣١٨م، ويعد رشيد الدين الهمدانى من أشهر مؤرخى عصره، حيث اهتم بالتأريخ والتوثيق للمغول والدولة الإيلخانية، والتى أسسها أحفاد الخاقان جنكيز خان، وكلمة (إيلخان) تتكون من مقطعين: (إيل) ومعناها الخاضع أو الطائع، و(خان) نسبة إلى الخاقان حاكم المغول.
وقد ذكر «الصقاعى» أن رشيد كان يهودى الأصل، ولم يؤكد غيره هذه الدعوى فى جامعه غير المدقق، وقد نفت الكثير من المصادر المعلومة ولم تستحسنها، وقد قال رشيد فيما قاله عن نفسه وعن أبيه:
«من المحقق المعروف لجميع ذوى المقام، الذين يعتبرون فى أيامنا هذه من عمد الدين والدولة، أن شهرة أبى ترجع أولًا وقبل كل شىء إلى طهارة أخلاقه وشدة تمسكه بإسلامه، فقد ظل السنين الطوال يتردد على مجالس العلماء ويختلط بالشيوخ والنساك».
وقد اهتم رشيد بالتأليف والتأريخ كما اهتم بالطب، وكان له حظوة لدى الحكام، وقد أورد فى مقدمة مؤلفه «جامع التواريخ» أنه وضعه على ثلاثة مجلدات وفهرسه ببذل العناية المطلوبة التى تعين القارئ على فهم الحوادث والأنساب والتواريخ، فجاء المجلد الأول: والذى أمر بإتمامه شاهنشاه الإسلام السعيد أولجايتو، على أن يظل مقدما باسم أخيه السلطان غازان خان، ويشتمل هذا المجلد على بابين: الباب الأول:
وهو فى بيان الحكايات المتعلقة بظهور أقوام الأتراك، وكيفية انشعابهم إلى قبائل مختلفة، وشرح حال آباء وأجداد كل قوم منهم بصورة مجملة، ويشتمل على ديباجة وأربعة فصول تحدثت عن أقوام الأوغوز، وهى الشعوب التركية التى تنحدر من سلالة يافث بن نوح، وتاريخ الأقوام الذين كانوا معه من أعمامه، بينما يتحدث الفصل الثانى: عن المغول فى قديم الأيام، وخصص الفصل الثالث: لكل ملك ورئيس منهم على حدة، وخصص الفصل الرابع: لذكر أقوام الأتراك الذين كانوا يلقبون قديمًا بالمغول وقسمهم إلى مغول درلكين ومغول نيرون.
وجاء الباب الثانى: فى بيان حكم ملوك المغول والأتراك وغيرهم، ويشتمل على فصلين، أولهما: فى بيان تاريخ آباء جنكيز خان وأجداده، وحكاياتهم وشرح أحوالهم، ويشتمل على سير عشرة أشخاص، بدأت بسيرة – تاريخ- دويون بايان، وانتهت بتاريخ بيسوكا بهادر بن برتان بهادر.
وثانى فصول هذا الباب: فى تاريخ جينكيز خان وأبنائه وأحفاده المشهورين الذين نصب بعضهم سلاطين، ومنحوا لقب «خاقان»، كذلك هؤلاء الذين لم يصلوا إلى سدة الحكم.
وجاء المجلد الثانى: والذى أمر بتأليفه- كما أوضح رشيد الدين- شاهنشاه الإسلام السلطان أولجاتيو وكتب باسمه، ويشتمل هذا المجلد على بابين:
الباب الأول: فى تاريخ السلطان منذ ولادته حتى زمن تأليف الكتاب فى عام ٧٠٦ هجريًا.
والباب الثانى: من المجلد الثانى قسم إلى قسمين، وبالمثل تم تقسيم قسمه الأول إلى فصلين: أولهما فى مجمل تاريخ كافة الأنبياء والخلفاء والسلاطين وسائر طبقات الناس وأصنافهم من عهد آدم عليه السلام حتى زمن التأليف، والفصل الثانى: فى تفصيل تاريخ كل قوم من أقوام أهل العالم الذين يقطنون الربع المسكون على اختلاف أجناسهم وطبقاتهم وأصنافهم.
أما عن القسم الثانى من المجلد الثانى فى هذه الموسوعة، ففيه: ذكر التاريخ لسلطان الإسلام أولجاتيو وترك رشيد مساحة لمن يجىء بعده، ليذيل هذا القسم بما يحدث من أحداث تالية لزمن الكتابة.
وأما المجلد الثالث: فقد أثبت وحقق المؤلف فيه كل ما سبق معرفته من أمور هذه الممالك، وما أعد من خرائط وصور، وأضاف إليه الهمذانى كل ما تحصل عليه من معلومات وردت فى كتب الحكماء والعلماء من الهند والصين والماچين وبلاد الإفرنج، والتى حققوها فى مؤلفاتهم.
ومع كل ما قدمه رشيد الدين فى خدمة ملوك الدولة الإيلخانية، وذكر أنسابهم وأعمالهم وحظوته لديهم، غير أن الوشايات بالرجل لدى السلطان لم تدعه وحاله، واتهم بدسه السم إلى السلطان أولجاتيو، مما أدى إلى محاكمته وإعدامه عقب ذلك فى عام ١٣١٨، وهو فى بداية السبعينيات من عمره.
ومن الجدير بالذكر أنه قد صدرت نسخة مدققة من هذا المؤلف القيم ضمن سلسلة التراث الحضارى للهيئة المصرية العامة للكتاب فى طبعة منقحة مدققة.