السيد شحتة يكتب: محنة الفلسطيني من ضيق المخيم إلى عتمة المعتقل في «قناع بلون السماء»

السيد شحتة يكتب: محنة الفلسطيني من ضيق المخيم إلى عتمة المعتقل في «قناع بلون السماء»


من أى مصير يمكن أن يهرب من ولد فى وطن محتل؟.. المستقبل على الأرض الضاربة بجذورها فى أعماق التاريخ يمضى عبر طريق واحد، مجرد مسار ضيق محفوف بالمخاطر يمتد من المخيمات التى ضاقت على أهلها إلى معتقلات الاحتلال الإسرائيلى، لا يختلف شتات الفلسطينيين فى الداخل عن شتاتهم فى الخارج سوى فى شبح الموت الذى يتربص بهم الدوائر فى كل لحظة فى الضفة الغربية وقطاع غزة.

فى رواية «قناع بلون السماء» للفلسطينى باسم خندقجى تتجلى مخاطرة أن يبحث الإنسان عن حقه فى الحلم فوق الأرض المحروقة من تحت قدميه، يكبر «نور الشهدي» فى أحد مخيمات رام الله، وتكبر معه الخيبات والانكسارات، يدرك الشاب الذى تشيبه النكبات سريعًا أن المخيم الفلسطينى يظل مجرد اسم دون أى معنى حتى ترتكب فيه مجزرة، ليصبح بعدها اسمًا لواحدة من المآسى الإنسانية، وما أكثرها فى أرضه المحتلة!.

يكتب باسم وهو الأسير الفلسطينى بوجع وبصدق شديدين ليعيد تقديم مشهدية بالغة الشجن لتغريبة الفلسطينى فوق أرضه وتحت سمائه، يحاول باسم فى «قناع بلون السماء»، التى وصلت للقائمة القصيرة للبوكر، رسم خطين متوازيين بين رحلة البحث عن سيرة أكثر عمقا لمريم المجدلية يسعى إليها البطل حثيثا من أجل كتابة عمل روائى، وبين نور الذى يبحث عن طريقة مثلى للخلاص من احتلال يصر على أن يحصر مستقبله بين خيارين لا ثالث لهما؛ إما ضيق المخيم أو عتمة الزنزانة.

لا تفارق ذاكرة نور صورة صديقه مراد، الذى اختطفته قوات الاحتلال من المخيم فى رحلة ذهاب بلا عودة، ليضيع بعدها وتتبخر معه كل أحلامه، يشقى نور لبعض الوقت بسبب ملامحه الغربية التى تدفع بعض أهله لإطلاق لقب الأجنبى عليه حينا ووصف الأمريكانى فى أحيان أخرى، تأتيه رسائل صديقه مراد من خلف القضبان فتحدثه كثيرًا عن ويلات سجون الاحتلال، فيزداد نور الذى يهوى دراسة الآثار رغبة فى الخلاص من محنة المخيم ولعنة المعتقل بأى ثمن.

يكتشف نور بمحض المصادفة أن ملامحه الغربية تمنحه الحصانة من بطش المحتل، والتى أنفق الكثير من الوقت والجهد فى البحث عنها، يبدو واحدا من الأشكناز القادمين من الغرب، وليس مثل أبناء المخيمات من العرب الذين تسعى الدولة العبرية لقتلهم بالحياة.

فى أحد الأيام، يعثر نور بالمصادفة داخل معطف قديم اشتراه على هوية إسرائيلية لشخص يدعى «أور شابيرا».. دون تفكير، يحسم نور أمره سريعًا ويقرر أن يعيش فى جلباب «أور»، يجد فى القناع الجديد حلًا لكل مشكلاته، يبتعد عن ضيق المخيم وشبح المعتقل، والأهم من هذا أنه يسمح له بأن يتجول بحرية فى القدس ويعيد اكتشاف تاريخ فلسطين بعد أن أهال المحتل عليه طبقات من الأكاذيب.

غلاف الكتاب

للمحنة جروح فى الداخل كما أن لها آثارا كارثية فى الخارج، وكيف لنور أن ينعم بشىء من الراحة، فإذا كان جسده قد نال قسطًا من الحرية المتوهمة فإن روحه مازالت حبيسة، يشتعل صراع لا يهدأ فى داخل الشاب المطارد فى وطنه، وماذا تبقى من الوطن تحت ضربات المحتل سوى أطلال تبكى وهى تتلطخ بالدماء فى كل ساعة، يحتدم الصراع الداخلى بين نور الشهدى وبين «أور شابيرا»، يحاول كل منهما أن يسوق الأدلة والأسانيد التى تؤكد أحقيته فى الأرض والجغرافيا والسيطرة على عقل وجسد شاب يبحث عن أبسط حقوقه فى الحياة.

لأول مرة فى حياته يتمكن نور من التجول فى وطنه بحرية، بفضل أور شابيرا الذى ساعدته ملامحه الأشكنازية على أن يعيش فى جلبابه، يحول ولعه بالتنقب عن الآثار إلى ثوب جديد للتخفى، يعمل مرشدا سياحيا يقتصر دوره على أن يرافق الوفود السياحية القادمة من أمريكا وكندا إلى إسرائيل والمؤمنة بالتفسير التوراتى للمشهد المأزوم فى الأرض المحتلة.

يجد نور الذى يعيش بشخصية أور نفسه فى لحظة لم تخطر له على بال مضطرا للمشاركة فى صناعة تاريخ مختلق من الوهم، حتى يتحول الاحتلال من كيان غاصب متهم فى نظر كل شريف بسرقة أرض من شعبها إلى أى شىء آخر تماما، فللأسطورة مفعول السحر، على أطلال قرية «صرعة» الفلسطينية يقف مع السياح يردد أكاذيب تم إنضاجها على مهل فى العقل الصهيونى، يتحدث عن «صرعة» بوصفها مسقط رأس البطل التوراتى شمشمون الجبار، لكن نور لا يصمد طويلا.. ينفجر البركان فيعود الشاب فلسطينيا كما كان ويزيح أور شابير جانبا ويصرخ فيهم: «أيها السادة، أنتم تقفون الآن على قرية فلسطينية دمرتها العصابات الصهيونية وأقامت فوق أنقاضها كيبوتس».

يهرب نور بعيدًا، وفى داخل غرفة صغيرة يختفى عن الأعين عدة أيام قبل أن يقرر بعد انقشاع غبار العاصفة أن يعود من جديد لارتداء جلباب أور شابير، فلحسن الحظ لم يستدل أحد على هوية مرشد الآثار الذى ظن الجميع أنه قد أصيب بلوثة عقلية، وبعد ذلك يتغلغل نور- الذى تحول بفعل الهوية الزرقاء إلى «أور»- أكثر فى عمق المجتمع الصهيونى، ويعاين بنفسه تاريخ فلسطين المطور مع سبق الإصرار والترصد تحت زيف الأساطير المؤسسة لإسرائيل.

أروع ما يقدمه باسم خندقجى فى «قناع بلون السماء» ليس تسليط الضوء على تاريخ فلسطين المسروق فى وضح النهار، ولكن فى عرضه المشهدى للإنسان الفلسطينى الذى يربطه حبل سرى بأرضه رغم كل الضربات التى تأتيه من الأمام والخلف.




Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *