محمد القصبي يكتب: عودة إلى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»

محمد القصبي يكتب: عودة إلى كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر»


خلال ندوة نظمها نادى القصة، بالتعاون مع مركز طلعت حرب الثقافى، وكان عنوانها «السوشيال ميديا من التدمير إلى التنوير..كيف؟» فاجأنا اللواء طارق المهدى وهو يقدم رؤيته بهذا السؤال: «أى كتاب نحتاج قراءته الآن.. لنستلهم منه مشروعا لبناء المجتمع المصرى على أسس مستنيرة؟» وفوجئت بشفتى تنفرجان وبشكل عفوى بتلك الإجابة: «كتاب مستقبل الثقافة فى مصر.. لطه حسين..! عميد الأدب العربى عكف على تأليف كتابه هذا عقب التوقيع على معاهدة ١٩٣٦ مع الإنجليز.

ليصدر عام ١٩٣٨. وقال فى مقدمته إن شاء الشباب فى فيضان حماسهم بعد التوقيع على المعاهدة كانوا يلاحقونه وغيره من كبار الكتاب بالسؤال عن دورهم بعد الاتفاقية.. وكانت ثمة إجابات، لكن عميد الأدب العربى شعر بأن الأمر من الأهمية بحيث لا تكفى تلك الإجابات السريعة.. فلاذ بقلمه ليقدم لهم رؤية أكثر استفاضة وعمقًا».. فكان هذا الكتاب: مستقبل الثقافة فى مصر.. وليس الكتاب بغريب عن مرجعيتى المعرفية.. وجيلى.. قرأناه مبكرا.. فى بدايات الحياة الجامعية وربما قبل ذلك..لكن- وهذا ما أعانى منه – أن قراءات تلك الفترة المبكرة لم تكن بالوعى والعمق الكافى.. كما هو الحال الآن.

وما يعلق بذاكرتى.. أن قضية التعليم كانت المحور الرئيسى فى طرح عميد الأدب العربى.. وهذا يتوافق مع ما أردده منذ سنوات خلال مقالاتى والندوات التى أشارك فيها: مع انتشار الجهل والقبح والدجل والشعوذة وضعف الانتماء للوطن.. للدين: الدماغ المصرى فى حاجة إلى إعادة هيكلة على أسس من التفكير العلمى والاستنارة.. عبر مشروع قومى يقوده مجلس أعلى للثقافة برئاسة رئيس الجمهورية.

أحد أهم مكوناته وزارتا التعليم العام والعالى، حيث ينبغى أن يكونا خط إنتاج فعال للمواطن المنتمى.. المستنير.. فهل روشتة طه حسين التى قدمها فى كتابه مستقبل التعليم فى مصر مازالت تحتفظ بصلاحيتها كوصفة علاج لما يعانيه الدماغ الجمعى من اختلالات؟ مصر ليست شرقية! هل حصلت مصر على حريتها واستقلالها من خلال اتفاقية ١٩٣٦..؟ هكذا بدا الأمر.. لكن وكما ينوه طه حسين الحرية والاستقلال ليستا الغاية بل وسيلة لتحقيق الحضارة التى تقوم على الثقافة والعلم، والقوة التى تنشأ عن الثقافة والعلم، والثروة التى تنتجها الثقافة والعلم.

يقول طه حسين: «أريد كما يريد كل مصرى مثقف، يحب وطنه، ويحرص على كرامته، وحسن رأى الناس فيه، أن تكون حياتنا الحديثة ملائمة لمجدنا القديم.(ص١٤) فكيف يتحقق للمصريين هذا الهدف السامى؟». للإجابة على هذا السؤال يشطر عميد الأدب العربى الكوكب، ومنذ القدم إلى كتلتين حضاريتين شرق ثقافى وينتمى جغرافيا إلى الشرق الأقصى وغرب ثقافى ينتمى إلى أوربا.. فإلى أى منهما تنتمى مصر؟ يرى طه حسين أن هذا المتداول الشائع أن مصر «ثقافيا» دولة شرقية.. غير صحيح.

فالعقل المصرى منذ عصوره الأولى، إن تأثر بشىء فإنما يتأثر بالبحر المتوسط، وإن تبادل المنافع على اختلافها فإنما يتبادلها مع شعوب البحر المتوسط. فمصر ثقافيا تنتمى للشرق القريب ولحوض البحر المتوسط.. ويسهب طه حسين فى الحديث عن العلاقات المصرية اليونانية.. وكيف كان اليونانيون يحتفون بالمصريين فى أشعارهم وغيرها..فتفاعل مصر الثقافى والحضارى وتأثيرها وتأثرها كان مع الكيانات الحضارية فى الشرق الأدنى وأوروبا. ولاعلاقة لها بالشرق الأقصى..الصين واليابان والهند.. ويقول عميد الأدب العربى إن المصريين إن كانوا قد وقعوا فى خطأ اعتقادهم أنهم شرقيون.

طه حسين

فهو ذات الاعتقاد الذى يقع فيه الأوروبيون أيضا.. حين ينظرون إلى مصر على أنها دولة شرقية!! ويقول أيضا إن الاستقبال الحسن من قبل المصريين للإسلام لم يجعل منهم شرقيين.. كما أن انتشار المسيحية فى أوروبا لم يجعل الأوروبيين شرقيين. أهذا مدخل لدعوته عبر كتابه بأن ننهج النهج الأوربى فى بناء مصر الراقية..المتحضرة؟

..فإن فعلنا ذلك.. فلايرى مفكرنا الكبير فى ذلك تبعية.. بل لأن ثمة تشابها فى المنبع.. فإن كانت الحضارة الأوروبية اتكأت على الفلسفة والأدب والفن اليونانى، والقيم الأخلاقية فى الدين المسيحى والتأثير الرومانى.. تلك المؤثرات فى الحضارة الأوروبية.. يقابلها فى بناء العقل المصرى التأثير والتأثر بالأدب والفلسفة والفن اليونانى، والقيم الخيرة فى الدين الإسلامى.. ويسوق عميد الأدب العربى اليابان نموذجًا.

فرغم الانشطار التام لشعبها جغرافيا وثقافيا عن الأوربيين.. فإنها حين أرادت النهوض استعانت بكل الأدوات التى اتكأت عليها النهضة الأوروبية، وثمة تشابه بين الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية ينوه إليه مفكرنا الكبير.. فإن كان المسلمون منذ عهد بعيد فطنوا إلى أصل من أصول الحياة الحديثة، وهو أن السياسة شىء والدين شىء آخر.

فهذا التصور هو الذى تقوم عليه الحياة الحديثة فى أوروبا، فقد تخففت أوروبا من أعباء القرون الوسطى، وأقامت سياستها على المنافع الزمانية، لا على الوحدة المسيحية، ولا على تقارب اللغات والأجناس. «ص ٢٤» كما ينوه إلى أن الفرق بيننا وبين الأوروبيين زمنيا، حيث بدأوا نهضتهم فى القرن الخامس عشر، بينما الغزو التركى آخر نهضتنا أربعة قرون.. ويقول لو أن الله عصمنا من الفتح العثمانى لاستمر اتصالنا بأوروبا ولشاركناها فى نهضتهم. إلا أن عميد الأدب العربى ينوه إلى أننا لسنا فى حاجة إلى قرون لنحقق تقدمنا، كما كان حال الأوروبيين، بل زمنا أقل طالما نهجنا الطريق الصحيح.. وبداية هذا الطريق الصحيح التعليم. حتى يكون المصرى إنسانا! ولماذا التعليم؟

يجيب طه حسين: إن كان اهتمام الدولة بالتجارة والصناعة والزراعة لتوفير احتياجات الجسم من الطعام والشراب ولينعم بصحة جيدة أسوة بالحيوانات.. فالاهتمام بالتعليم مهم ليكون المصرى إنسانا. (ص ٥٤)

ويعود د. طه حسين إلى التعبير الشائع والذى يلح عليه الدستور (الشعب مصدر السلطات) ويتساءل: «فماذا لو كان هذا الشعب جاهلا.. كيف يكون الشعب الجاهل مصدرا للسلطات؟!! وطبقا لرؤية طه حسين كان التعليم (فى ذاك الوقت) يعانى من الاضطراب.. ويراه:(مضطرب،ٍ أشد الاضطراب، قد قام على الاختلاط من جهة وعلى التذبذب بين المذاهب والآراء المتناقضة من جهة أخرى، وأقل ما يمكن أن يوصف به أنه قد مضى كما استطاع أن يمضى، لا كما يجب أن يمضى.

أتذكر.. ندوة شرفت بإدارتها فى الأخبار المسائى، وكان د. طارق شوقى فارسها.. ومن حماسه، ظل يتحدث من الساعة الثانية ظهرا وحتى التاسعة والنصف مساء.. وقد طرحت سؤالا عن العقبات التى تواجه تنفيذ مشروع التعليم الجديد.. وتولت خبيرة تربوية الإجابة.. حيث قالت بنبرة لاتخلو من الحزن: ٦٠% إلا أننى رأيتها نسبة عالية.. تدفعنا إلى ترقب مايجرى بتفاؤل، لكن على ما يبدو أنها لم تقرأ جيدا الواقع.

غلاف الكتاب

واقع المقاومة المستميتة للمشروع، حيث كانت احتمالات النجاح دون ذلك بكثير، وربما جسد د.طارق شوقى ما يتعرض له مشروعه من مقاومة شرسة فى عبارة قالها بأسى خلال الندوة، وكانت مانشيت الصحيفة، حيث قال: »نحن نخوض عملية انتحارية!! وهاهو د. طارق شوقى يطاح به.. ويكون البديل وزيرًا من نبت الوزارة ومناخها.. أهم مزاياه القدرة على قيادة سفينة وزارة التعليم بأمان، حتى لو انزلقت بها الرياح، وبالتالى المجتمع فى بحر الظلمات!!

وفى حديثه عن تطوير التعليم العام.. يقول طه حسين إننا أمام معرفة مسرفة فى التنوع والتشعب والاشتباك، بينما التلميذ محدود الطاقة مهما يكن حظه من القوة والذكاء، فكيف تكون الملاءمة بينهما؟ وكيف يهيأ ثانيهما- يقصد التلميذ- لاستقبال أولاهما- يقصد رياح المعرفة.. بقوة وجلد.. وأظن أن المشكلة تتفاقم الآن.. فإن كانت المعرفة تداعب البشرية من مصادرها المتنوعة كالنسيم فى ثلاثينيات القرن الماضى، فهى تبدو فى زمننا هذا كالأعاصير.. وكما نرى.. يتحدثون الآن عن الذكاء الاصطناعى الذى يمكن أن يزلزل الكوكب.. فى كافة المجالات..!!).. ويرى عميد الأدب العربى أن ثمة شرطين أساسيين يجب أن يتوافرا لحل هذه المشكلة حلا مقاربًا؛ الأول: ألا نسرف فى إفعام البرامج بهذا العلم المفصل، الذى يثقل على المعلم والتلميذ معا، فيضطر الأول إلى كتابة المذكرات ويضطر الثانى إلى الحفظ والاستظهار.

وإذا اقتصد أصحاب كل فن وعلم فى برنامج فنهم وعلمهم- يقول طه حسين- فقد ينشأ من هذا الاقتصاد المشترك توازنا معقول فى البرامج والمناهج ييسر الأمر على التلميذ، وعلى المعلم، ويمكن التعليم العام من أن يهيئ الشباب لاستقبال الحياة فى غير جهل بها، ولاستقبال الدرس العالى فى استعداد حسن له. والشرط الثانى: أن يُمنَح التعليم العام ما ينبغى له من الوقت.. ويدعو طه حسين إلى إطالة التعليم الثانوى بزيادته بضع سنوات.. وينوه إلى أن ذلك قد يغضب الآباء والأبناء..وقد يؤدى إلى انفجار الشوارع بالمظاهرات والاضطرابات.. لكن مصلحة التعليم ينبغى أن تكون فوق هذا كله!!والسؤال: «هل تغيير د. طارق شوقى كان رصوخًا لغضب أولياء الأمور والطلاب والمدرسين.. دون مراعاة للمصلحة العامة..؟!!!!!

التعليم لمن؟ يقينا لجميع أفراد الشعب، لكن الدولة كما يرى طه حسين.. لاتستطيع أن تتحمل وحدها النفقات الباهظة للعملية التعليمية، لذا يطالب بألا تسرف فى تجهيز المدارس..ليس من حيث الكم.. ولكن من حيث التجهيز و(الفخامة)، حيث يدعو إلى مراعاة مقتضيات العملية التعليمية دون مغالاة وإسراف فى البناء والتأثيث لكن، حتى لو فعلت الدولة ذلك.

هل بمقدورها تشييد ما يكفى من المدارس وبما يتلاءم مع الزيادة السكانية سنويا.. والتى تقترب الآن من مليونى ونصف المليون نسمة سنويا..؟! هؤلاء فى حاجة إلى أكثر من ١٥٠٠ مدرسة ابتدائية سنويا..هذا غير المدارس المطلوب إنشاؤها فى المرحلتين الإعدادية والثانوية.. وأيضا الجامعات.. وهذا ما يتجاوز طاقة الدولة.. وما عانت مصر فى ثلاثينيات القرن من هذا الانفجار الذى نعانى منه الآن ويراه البعض انتحارًا سكانيًا.. حينها كان عدد السكان لايتجاوز الـ ١٥ مليون نسمة.. ومع ذلك طالب طه حسين.. نعم بتوفير التعليم المجانى، لكن للفقراء.

أما الطبقات المتوسطة والغنية فينبغى أن تتحمل شيئا من هذا العبء.. من خلال رسوم مدرسية تدفعها سنويا..نعم التعليم مجانا للفقراء، لكن لميسورى الحال الأمر يختلف..عليهم من خلال رسوم دراسية مناسبة أن يساهموا فى تكاليف العملية التعليمية، بل وفى هذا الإطار يطالب عميد الأدب العربى ألا تتحمل الدولة صناعة الكتاب المدرسى والمتاجرة فيه.




Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *