كيف نقرأ الهوامش الكوبية للكاتب الكويتى إبراهيم المليفى؟
يمنحك عنوان كتاب «هوامش كوبية- ذات السلاسل للطباعة والنشر والتوزيع- الكويت- 2023م» للكاتب الكويتى إبراهيم المليفى، مفتاح التعامل مع الكتاب، فكأنه يشير إليك أن تحلل هوامشه قبل أن تقرأ متنه. وأول هذه الهوامش التى لا يتم الالتفات إليها غالبًا هو الفهرس الذى يحتوى على أربعة فصول هى: هافانا مدينة تحت الحصار- إرنست همنجواى فى كوبا حياة طليقة ونهاية فاجعة- خوسيه مارتى شاعر كوبا الذى أحب العرب- هوامش كوبية.
لكن الفهرس يحتوى كمًا آخر من المعلومات أيضًا، فتحت كل عنوان نجد ببنط أصغر أن هذا الفصل نشر بمجلة العربى، مع تحديد رقم العدد وتاريخه. وهى معلومات غاية فى الأهمية، وتحليلها مع تحليل عناوين الفصول يمكن أن تمنحك فكرة جيدة عن رحلة المليفى إلى كوبا، من حيث منهج الرحلة، وأسلوب كتابتها، وما كان مبتغاه من كتابة كل فصل عنها.
فالفصول الأول والثانى والرابع نشرت بمجلة العربى، أما الفصل الثالث فنُشر بمجلة العربى الصغير، وهو ما يشير إلى أن أسلوب كتابة الرحلة فى الفصل الثالث سيختلف عن الفصول الأخرى، لأن الكاتب سيضع فى اعتباره بالضرورة نوعية القارئ والمطبوعة التى ينشر فيها وقائع رحلته، بداية من اختيار موضوع الرحلة وتفاصيلها، ولغة عرضها.. إلخ.
أما تواريخ نشر الفصول الأربعة فهى كالتالى بالترتيب: 2004م- 2005م- 2003م- 2013.
لم يضع الكاتب الفصول فى الكتاب بالترتيب الزمنى لنشرها، وربما يرجع ذلك لأمرين، الأول أن يبدأ كتابه بأكثر الفصول سخونة، وهى كوبا تحت الحصار، والثانى أن تكون الرحلة الخاصة بالقارئ صغير السن متأخرة فى الترتيب حتى لا يظن القارئ كبير السن أن هذه الرحلات ليست موجهة له، ثم يأتى الفصل الرابع بعد ثمانى سنوات من الانقطاع عن الكتابة عن كوبا لتكون فرصة للتأمل فى الرحلة بعد سنوات من انقضائها. لقد زار الكاتب كوبا لمدة عشرة أيام، لكنه ظل يتأملها ويكتب عنها لمدة عشر سنوات، وهى إشارة مهمة لتأثير هذه الرحلة فيه، وهو التأثير الذى نجح فى نقله إلى القارئ.
أما الهامش المهم الآخر فهو أول فصول الكتاب، أو هو التمهيد، أو المقدمة، أو أسبابه لاختيار كوبا، لم يحدد الكاتب تعريفًا لما كتبه فى صفحتين تحت عنوان (لماذا كوبا؟)، بل لم يضع هذا العنوان فى الفهرس، ربما باعتباره هامشًا يخص مبررات الكاتب ولا يخص كوبا نفسها التى تتحدث عنها فصول الكتاب الأربعة.
كان السفر إلى كوبا حلمًا لدى المليفى ليرى بنفسه «الحياة فى آخر معاقل العناد ضد الرأسمالية، وآخر الأنظمة الماركسية العتيقة الباقية على قيد الحياة». وليتعلم دروسًا فى الحياة ينقلها للآخرين، أهمها «التأنى فى تكوين القناعات الشخصية وعدم التأثر بالصور النمطية وتحمل أثقال الضخ الإعلامى الموجه، وكوبا من خير تلك الأمثلة». والسبب الثالث هو طبيعة التركيبة السكانية الغريبة فى كوبا، والتى تتعايش بانسجام مدهش، من السكان الأصليين والغزاة والعبيد والمهاجرين. ولا يغفل الكاتب حبه للسيجار الكوبى، لكن كوبا بالنسبة له أكبر من كل ذلك، هى «ليست بلدًا يطويه النسيان بسهولة، فكوبا رحلة وجدانية بكل المعانى».
يقسم الكاتب كل فصل إلى عدد من المقاطع ليتيح لنفسه ولقارئه فرصة التركيز على فكرة محددة يصف من خلالها المشاهد التى يتأملها، ليمزج بسلاسة بين الصورة الظاهرة، والظواهر التى خلفها، وتعقيد ارتباط الاجتماعى بالسياسى والآنى بالتاريخى، والاقتصادى بالإنسانى. منذ أول جملة فى أول فصل نرى افتتان الكاتب بالطبيعة الكوبية، وبالإنسان الكوبى، وعدم شعوره بالغربة رغم عدم وجود تماثل بينه وبين هذا الإنسان، يصفها بأنها «الجنة الاستوائية المطيرة»، ويصف ناسها بأنهم يملكون «الابتسامة الصافية وشفافية المشاعر»، ولا تتوقف عيناه عن رصد كل ما يمكن أن تراه عين الرحالة.
المبانى الحديثة فى هافانا الجديدة، القصور المهجورة من مخلفات أنظمة ما قبل الثورة، هافانا القديمة المزدحمة بناسها الذين يتنقلون بالأساس بواسطة باصات تسمى (الجمل) والدراجات الهوائية والنارية، ويفند أسطورة السيجار الذى يلف على سيقان العذارى، وقصر الحاكم الإسبانى أيام الاستعمار، وسوق الكتب المستعملة، وكيفية تصميم شوارع هافانا بحيث يكون الضياع فيها مستحيلًا، وبيت همنجواى الذى عشق كوبا، ويخته «بيلار» الذى ولدت فه فكرة روايته الشهيرة «العجوز والبحر»، وحكايات لكوبيين أصولهم عربية، وزيارة إلى «بيت العرب فى هافانا هو واحد من أشهر المعارض التى يمكن من خلالها التعرف على تاريخ أوائل المهاجرين العرب إلى كوبا، ويقع فى طابقه العلوى المسجد الوحيد فى كوبا بأسرها».
ولا يفوت الكاتب الحديث عن جذور الوجود العربى والإسلامى فى كوبا، وما تعانيه كوبا تحت الحصار الذى اضطرها لإجراء إصلاحات اقتصادية جذرية لتستطيع الاستمرار فى ظل تلك الظروف شديدة الصعوبة، وطرح العديد من الأسئلة حول مستقبل كوبا، بداية من شكل النظام الاقتصادى الذى ستنتهجه وتأثيره على باقى مناحى الحياة، ويرجح أنه ستكون اشتراكية اسميه، لكنها ستكرر التجربة الصينية. ربما جملة واحدة فى الفصل الأول كانت تحتاج إلى تحرير فى صفحة 32 (والدبابة التى تبدو فى الصورة هى أول دبابة دخل بها الثوار إلى هافانا)، ولا توجد الصورة التى بالتأكيد نشرت مع الموضوع فى مجلة العربى.
يتمثل اهتمام الكاتب بالجانب الثقافى فى تخصيص فصل عن الكاتب الأمريكى إرنست همنجواى، الذى عشق كوبا، وعاش فيها، وأنتج أجمل إبداعاته، وانتحر برصاصة (ليوقف مسلسل عذابه مع الأمراض التى فتكت به)، يشير الكاتب إلى ما قدمه الجزء الثانى من الفيلم الشهير (العراب أو الأب الروحى) عن كوبا، ويحلل أسباب عشق همنجواى لها. ومن خلال وصف حياة همنجواى فى مزرعته بكوبا، أو مغامراته فى صيد أسماك المارلين، يقدم الكاتب حياة همنجواى فى تداخلها مع الحياة اليومية لأهالى كوبا، بما فيها من نشاط ومرح وإقبال على الحياة رغم كل الظروف.
وينتقل الكاتب بسلاسة من الحديث عن أديب أمريكى عشق كوبا، إلى شاعر كوبى عشق العرب، فلم تبعد عينا المليفى فى رحلته عما يمسه شخصيًا كعربى يبحث عن الجذور العربية فى هذا البلد المدهش، وعما بقى منها حتى الآن، وفى حديثه عن الشاعر الكوبى خوسيه مارتى، الذى أحب العرب، يشير إلى أنه كتب أول مسرحية شعرية له وهو فى السادسة عشرة من عمرة بعنوان (عبد الله)، «ليخلد من خلالها نضال شعبه ضد المستعمرين، حيث قدم كوبا فى هذه المسرحية فى صورة أرض عربية وأبطال هذا العمل من العرب أيضًا». فقد كان مارتى يرى العرب «المخلوقات الرشيقة اللطيفة التى تشكل الشعب الأكثر نبلًا وأناقة على سطح البسيطة».
وقبل موته بعام كان ينصح «ينبغى الاستفادة من العربى فى أمرين على الأقل، صلواته اليومية حيث يدعو الله الهداية للسير على الصراط المستقيم، وذلك المثل القائل الكلاب تنبح والقافلة تسير». وكان مارتى متابعًا جيدًا للوضع فى العالم العربى فى زمنه، إذ علق على الثورة العرابية ضد الخديو توفيق بقوله: «مصر تسعى لأن تكون سيدة نفسها»، وفضح فرنسا فى اتخاذها حججًا واهية للاستيلاء على تونس.
وفى الفصل الأخير الذى أعطى عنوانه للكتاب نفسه «هوامش كوبية» يبدأ الكاتب بداية روائية وصفية «فى الصباح الباكر أطلت علينا شمس البحر الكاريبى، مرتدية ثوبًا خفيفًا غُزل من قطن الغيوم»، وكأنه بهذه المقدمة يعيدنا إلى الجنة الاستوائية التى وصفها فى بداية الفصل الأول، لنرى أنه انتظر سنوات طويلة ليعيد التأمل فى رحلته الكوبية، يقرأ عن كوبا فى المصادر، لكنه يؤكد أن كوبا تُرى ولا ينفع معها سمع أو قراءة.
ويحرص الكاتب فى تأملاته على الحديث عن الأمان الذى يشعر به المرء فى كوبا حتى فى الليل، مع الإشارة إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التى تتضح بعض مظاهرها، مثلًا فى السوق السوداء للغذاء الذى يوزع مجانًا، أو عدم توافر الاحتياجات الأساسية فى المستشفيات، والهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة بقوارب الموت، وعدم الاستمتاع بالتكنولوجيا الحديثة مثل الإنترنت، لكنه يؤكد على أن «العلة تكمن فى تقديم صورة واحدة غير مكتملة لبلد جميل يعيش فيه شعب رقيق يعشق الحياة بعنف».
يقدم لنا المليفى بلدًا عاش تجربة خاصة جدًا ربما لا تشبهها أى تجربة أخرى فى العالم، وهو يقدمها من خلال ما قرأه فى العديد من المصادر والمراجع التى تخص كوبا وتاريخها وسياستها واقتصادها.. إلخ، وكذلك من خلال الاحتكاك المباشر بأهالى كوبا، وهو يقدم كل ذلك بحب لا ينكره، بل يؤكد عليه فى كل فرصة ممكنة، حب للبلد ولناسه وللإنسان الذى لا يرغب سوى فى عيش حياة معقولة اقتصاديًا، وهادئة، ومرحة.