«شم النسيم» احتفال مصرى الهوية.. ليس مرتبطًا بعقيدة دينية

«شم النسيم» احتفال مصرى الهوية.. ليس مرتبطًا بعقيدة دينية


شم النسيم..الربيع.. النيروز.. الفصح.. عيد أدونيس.. رأس السنة البابلية.. كل هذه الأسماء وأسماء أخرى كثيرة تدل على شىء واحد وعيد واحد. نعم إنه عيد كل المصريين.عيد شم النسيم، قائم من عهد المصريين القدماء وحتى اليوم، ولم تقض عليه الأديان التي اعتنقها المصريون، من مسيحية وإسلام، بل أصبح عيدًا قوميًا يحتفل به المصريون على اختلاف أديانهم.

رسوم فرعونية تجسد الاحتفال بشم النسيم

أوضح الكاتب والروائى المصرى خيرى شلبى في مقدمة كتاب «شم النسيم أساطير وتاريخ وعادات وطقوس» للباحث في التراث المصرى واللغة المصرية القديمة عصام ستاتى.. بقوله: «يجمع المؤرخون على أن يوم شم النسيم عيد مصرى قديم. إنه يوم مصرى الهوية، تنبع مصريته من ارتباطه العريق بالتقويم المصرى الذي هو إنجاز مصرى صرف. واذا كان المصرى القديم والحديث كذلك يحتفل بأعياد الحصاد، فإن احتفاله بعيد الربيع من أقدم الاحتفالات. إنه البرزخ الذي يفصل بين مناخين مختلفين، ليس درجة الحرارة فحسب، بل في ازدهار النبات واخضرار الشجر وانتعاش العاطفة».

إقبال المواطنين على الحدائق للاحتفال

ولكن منذ متى بدأ المصريون يحتفلون بيوم شم النسيم؟ ولماذا ارتبطت مائدته بالأطعمة الحريفة كالفسيخ والبصل والبيض والخس والملانة؟. لماذا رفض المصرى البسيط أن يقول «عيد الربيع»؟ ولماذا ظل يقول شم النسيم؟.. كيف نقل اليهود عن المصريين عيد شم النسيم؟، لماذا يقع شم النسيم دائما يوم الاثنين؟.. كل هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها المؤرخ عصام ستاتى في كتابه «شم النسيم أساطير وتاريخ وعادات وطقوس» من خلال المصادر التاريخية المتعددة. أوضح ستاتى أن عيد شم النسيم عيد قومى مصرى، وليس عيدًا دينيًا، بل عيدًا من أعياد الطبيعة.. وشم النسيم يسمى في اللغة الهيروغليفية باسم شمو، وهى تسمية تطلق على أحد فصول السنة المصرية القديمة وتعنى فصل الحصاد.. وبمرور الزمن تغير هذا الاسم من شمو إلى شم وخاصة في العصر القبطى، ثم أضيفت إليه كلمة النسيم فأصبح شم النسيم وهو الاحتفال بمجىء فصل الحصاد، لذلك اعتبر المصرى القديم ذلك اليوم رأسا للسنة المدنية. وحدد ميعاده بالانقلاب الربيعى، وهو اليوم الذي يتساوى فيه الليل بالنهار وقت حلول الشمس في برج الحمل، وكانوا يحددون ذلك اليوم والاحتفال بإعلانه في ليلة الرؤية عند الهرم الأكبر، وعندما يقسم ضوء الشمس وظلالها واجهة الهرم إلى شطرين (لغز الهرم الأكبر) وهنا يتبين مدى ارتباط هذا العيد بمعنى الشمس المشرقة من تلك النقطة المنفردة على أفق وهى نقطة الاعتدال. وبعد لحظة الرؤية يعود الناس من الهرم إلى منازلهم ويقومون بالاستعداد لتجهيزأدوات لعبهم وموائدهم للخروج قبل شروق الشمس يرتلون في الليلة دعواتهم وأمانيهم. ويبدأ الناس يخرجون جماعات إلى الحدائق والحقول والمتنزهات ليكونوا في استقبال الشمس عند شروقها وتقام حفلات وتجرى مباريات رياضية وحفلات تمثيلية، وكانت صفحة النيل تمتلئ بالقوارب التي تزينها الزهور وأغصان الأشجار المثمرة منقوشًا عليها كلمات الترحيب والتهنئة بعيد الحصاد (شمو). وقد اختلف المؤرخون في معرفة متى بدأت مصر الاحتفال بهذا العيد.. فيرى أغلب الباحثين أن الاحتفال بدأ رسميًا اعتبارًا من عام 2700 ق م أي مع نهاية الأسرة الثالثة وبداية الأسرة الرابعة، وإن كان معروفا قبل ذلك، وأنه انتقل إلى حضارات العالم القديم عن طريق مصر.

غلاف الكتاب

وعن مائدة شم النسيم قال ستاتى: تعد هذه المائدة جزءًا رئيسًا للاحتقال، وتتكون من خمسة أطعمة وهى: البيض والفسيخ والبصل الأخضر والخس والحمص والملانة، هذه المائدة التي انتقل بعضها إلى شعوب العالم، واعتبروها جزءًا لا يتجزأ من طقوس هذا العيد.، لم تكن من باب الترفيه، بل كان لها جذور مقدسة مرتبطة بالعقائد المصرية القديمة، وهذه الأطعمة الخمسة التي ترتبط بخماسية الكف وأصابع اليد تسمى بالخماسية المقدسة، لأن الكف لدى المصريين القدماء يرمز إلى العطاء الإلهى، ولكل طعام من هذه الأطعمة فلسفته الحياتية المرتبطة بالمجتمع الزراعى. فالبيض يرمز لخلق الحياة من العدم لدى القدماء.. أما فكرة نقش البيض وزخرفته، فقد ارتبطت بعقيدة قديمة أيضا وهى اعتقادهم أن ليلة العيد بمثابة ليلة القدر. فكانوا ينقشون على البيض الدعوات والأمنيات ويجمعونه في سلال من سعف النخيل الأخضر، ويتركونها في شرفات المنازل أو يعلقونها في أشجار الحدائق حتى تتلقى بركات نور الإله عند شروقه فيحقق دعواتهم، ويبدأون العيد بتبادل التحية (بدقة البيض) والذى لم تكسر بيضته تتحقق أمنياته، ويقوم بعض الظرفاء بأخذ بيضة من حجر مخروطى كخرط البيض ويصبغها بنفس الألوان.. ومن هذه اللعبة جاءت المقولة الشعبية (فلان يلعب بالبيضة والحجر) وهى كناية عن الغشاش القادر على إخفاء غشه بحيلة. أما فلسفة المصرى القديم في استخدام الفسيخ فلأسباب عقائدية ترجع إلى أن الحياة خلقت من محيط أزلى مائى عميق بلا حدود خرجت منه جميع المخلوقات وأعقب ذلك بعث الحياة. كما أن السمك المملح كان يوصف للوقاية والعلاج من بعض أنواع حميات الربيع والوقاية من ضربات الشمس. كما احتل البصل الأخضر مكانة على مائدة شم النسيم، فكان لطرد الأمراض الأرواح الشريرة، كما اهتم المصريون بالخس وتقديسه والاحتفال ببشائره في عيد شم النسيم، وكان للحمص، كما للخس الكثير من الفوائد والمزايا التي ورد ذكرها في بردياتهم الطبية، وكانوا يعتبرون نضج الثمرة وامتلاءها إعلانًا عن ميلاد الربيع وهو ما أخذ منه اسم الملانة.

لا يزال هناك من يدعى أن شم النسيم عيد يهودى وهنا أوضح ستاتى: إن هذا العيد ليس مرتبطًا بعقيدة، ولكنه عيد قومى لكل المصريين عاش قبل مجىء الدعوات السماوية. لقد نقل اليهود عن المصريين عيد شم النسيم عندما خرجوا من مصر في عهد موسى عليه السلام. وقد اتفق يوم خروجهم مع احتفال المصريين بعيدهم، وقد أشار كثير من المراجع التاريخية إلى أن اليهود اختاروا ذلك اليوم بالذات للخروج حتى لا يلفتوا نظر المصريين بخروجهم، لانشغالهم بالعيد، مع ما حملوه معهم من ذهب المصريين وثرواتهم، واحتفل اليهود بالعيد بعد خروجهم ونجاتهم وأطلقوا عليه اسم عيد الفصح، والفصح كلمة عبرية بمعنى العبور أو الخروج، كما اعتبروا ذلك اليوم، يوم بدء حياتهم الجديدة، وهكذا اتفق عيد الفصح العبرى، وعيد شمو أو عيد الخلق المصرى.

ويواصل ستاتى: انتقل عيد الفصح بعد ذلك إلى المسيحية، لأنه وافق مصادفة عيد القيامة، ولما دخلت المسيحية مصر، أصبح عيدهم يلازم عيد المصريين القدماء، فلذلك اختاروا أن يقع في اليوم التالى، ولذلك يقع شم النسيم دائما يوم الاثنين أي اليوم التالى لعيد الفصح أو عيد القيامة.

رغم التشابه بين محافظات مصر في الاحتفال بعيد شم النسيم، إلا أن هناك اختلافات في الكثير من الطقوس والعادات، ففى الشرقية نجد في منيا القمح (الغنيمى وكوم حلين) طقس المموكية والقفز فوق حفرة النار. وفى قرية (الإخيوة) بمركز الحسينية يتم الاستعداد قبل يوم شم النسيم بعشرة أيام في طقوس تشبه طقوس المولد الشعبى، وفى الواحات يعلق نبات الدميسة بجوار البصل الأخضر، وفى دمياط تصنع بيضة من الخشب وتلون بدقة، فنجد في مدن القناة ظاهرة حرق (اللنبى) الدمية يوم شم النسيم، وجاءت الفكرة من الإسبان الذين يعملون مع الفرنسيين، وكان جزء من إسبانيا محتلًا من فرنسا، وكان هؤلاء الإسبان يقيمون في الربيع طقسًا اسمه (لايس فايا) وهذا الطقس كان في الأصل يقام في مدينة فالنسيا أو بالنسيا بالإسبانية، وقد شاهد الوطنيون هذا الطقس لحرق دمية (ديليسبس) مؤسس الصراع الطبقى بين الوطنيين والأجانب، ورافع لواء السخرة، وتوالى الطقس بأخذ أشكال وأسماء أخرى لرموز القهر والاستعمار حتى عام 1919، وعندما انفجر بركان الغضب خلال ثورة 1919 حيث كان لبورسعيد نصيب من هذا الغضب، وخاصة أن أهل بورسعيد لم تتوقف مناوشاتهم أبدًا مع الجاليات الأجنبية وقوات الاحتلال، ورغم أن اللورد اللنبى لم يكد يمضى على قدومه إلى مصر أسبوع واحد، إلا أنه كان نصيبه دمية شم النسيم لهذا العام، والتصق به هذا الطقس حتى الآن وقام الوطنيون بعمل الدمية على شكل ضابط إنجليزى له ملامح اللنبى وعلقوها على صارٍ طويل وطافوا بها شوارع المدينة ثم أحرقوها، وانتقل الغضب البورسعيدى ليشمل مدن القناة الأخرى بل امتد حتى دمياط، ويتم الإعداد لحرق دمية اللنبى قبل شم النسيم بأسبوع، وتقوم كل مجموعة من الشباب على مستوى كل حى بتنفيذ هيكل دمية اللنبى، وتخرج زفة اللنبى ويصاحبها الغناء باستخدام بعض الآلات الموسيقية، مثل الطبلة والرق والطار وآلة السمسمية وتعود الزفة إلى مكان بدئها حتى فجر يوم شم النسيم، وهى اللحظة التي يتم فيها حرق دمية اللنبى، ومن هذه المقاطع الغنائية في أثناء لحظة الحريق (يا تربة يامّو بابين.. وديتى اللنبى فين).




Source link

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *