الكاتب اليمنى على عبدالله العجرى يكتب: كاميرا الكلمات ترصد حالات إنسانية فى«قلوب ضالة» لـ«فاطمة وهيدى»
نبدأ من العنوان حيث تقول العبارة التقليدية: المكتوب يقرأ من عنوانه. وعنوان هذه المجموعة القصصية للقاصة فاطمة وهيدى «قلوب ضالة». جملة اسمية المبتدأ: قلوب والخبر ضالة. ويشير هذا العنوان إلى أنه إذا كانت القلوب موطن الحب والخير والصلاح؛ فهى أيضا موطن الضلالة والظُلمة. قال تعالى: «فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التى فى الصدور».
■ أما لوحة الغلاف فقد ترجمت وفككت كثيرا من دلالات النصوص، الستة عشر. بالذات ما يخص المرأة التى تكابد للخروج من قشرة البيضة الرامزة للمجتمع والمحيط. فعلى الرغم من أن هذه القشرة حاضنة إلا أنها يجب أن تكون إلى حين وليس إلى الأبد.
ثم إن هذه اللوحة قد ترمز إلى الكبت والمعاناة والتناقض والازدواجية التى سنكتشفها تباعا فى قصص المجموعة.
ننطلق من القصة الأولى التى تحمل عنوان «الصورة الأخيرة. حيث يكابد فيها المصور صابر الحاجة والبطالة بعد اندثار مهنته (مصور جوال) بفعل استحواذ التكنولوجيا على فرصته اليتيمة لتوفير جنيهات بسيطة تسد رمق أطفاله وزوجته، مما يضطره للعمل فى ملهى ليلى لتوثيق لحظات راقصة مع زبائنها. إلا أن المصور فشل حتى فى أن يكون ضالا. وأضاع كل الصور بضغطة زر غير متعمدة. ليتم بعدها ضربه وطرده من الملهى.
هذه القصة كثفت بوضوح وجع البسطاء والمقموعين. وهو اشتغال عملت عليه القاصة فاطمة وهيدى فى أغلب نصوص المجموعة. نزولا إلى النقطة الأبعد فى قاع المجتمع الذى تتشابك فيه الحاجة المادية والفقر مع الكبت الجنسى والحرمان وسطوة المجتمع، كما فى قصة « لليالى العشر». حيث المرأة الأرملة التى تكسب قوة يومها من بيع سندويتشات البطاطس المقلية فى بوابة مبنى الشهر العقارى وتسكن فى سطح إحدى العمارات مع سكان آخرين، منهم جارتها زكية التى لا تكف عن سرد علاقتها الزوجية مع زوجها، مما يستفز رغبات الجسد عند جارتها حميدة الأرملة المستفزة أصلا من معكسات أهل الشارع. كل ذلك دفعها أخيرا لارتكاب ضلالة المعاشرة المحرمة مع ولدها المراهق.
الكاتبة وهيدى تستمر فى تتبع حالات المرأة ضالة ومضلَلة. جانية وضحية. مقهورة ومكبوتة. سواء كانت المرأة أرملة أم زوجة أم عاشقة وطفلة وعاملة وربة بيت…الخ. نلاحظ ذلك فى نصوص عدة مثل اغتيال، الفردوس، صندوق الفرح. فوضى الروح، دموع مؤقتة… وغيرها. ومن الثيمات التى وقفت عليها الكاتبة فاطمة وهيدى فى هذه المجموعة: الفقر وضيق الحال ومجاهدة الحياة. ثيمة تكاد تكون مشتركة بين كل القصص وإن كان لكل قصة مسارها الخاص وحمولتها الحكائية والدلالية والرمزية.
ففى قصة الفأر مثلا تقترب الكاتبة من الدلالة السياسة والعصبوية الوطنية. فالبطل فى هذه القصة شاب فقير يبحث عن تغيير واقعه، وجاءته الفرصة عبر مشاركته فى مباراة للملاكمة رتبها له صديقه أو وكيله (رمزى).
لكن فى جولات المباراة كان وكيله يحثه على الهزيمة بدل النصر. ليكتشف فيما بعد أن هذه الهزيمة هى الطريق للفوز بجنسية بلد الخصم. وكان قد سبقه شاب آخر اسمه (ذكى) إلى هذه الجنسية وعلقت به تهمة الخائن.
تقول الكاتبة فى نهاية القصة: «بعد أيام دخل منصور متأبطا ذراع منافسه اللدود أحد المطاعم الكائنة فى وطنه الجديد. فاستقبلهما النادل ذكى فاتحا ذراعيه وابتسامة النصر تكسو وجهه. أحس منصور بمرارة الهزيمة تنضح من حلقه. وحين احتضنه ذكى شعر وكأنه فأر، دخل مصيدة أبدية لا سبيل للنجاة منها». هذه القصة بمدلولها السياسى ترمز للتنازل عن الهوية، والقدرة على الانتصار، مقابل الخروج من الوطن الفقير إلى البلد الغنى المتخيل الذى لن يكون إلا مصيدة. كما نكتشف فى هذه القصة فخ الذهنية التركيبية النمطية.. التى تحاكم النتائج التى وصل إليها الشباب وتبتعد عن تحليل الأسباب والمعطيات التى تجعل هؤلاء الشباب يفرون من أوطانهم إلى مواطن الاغتراب حيث الخصوم المفترضون.
أما قصة «الهروب» وهى تحكى عن رجل متواضع الحال دخل مع زوجته فى مسابقة قرأ عنها فى إحدى الصحف. ومن شروط المسابقة أن يبقى مع زوجته فى مكان مغلق لعدة أيام وفى إحدى فقرات المسابقة وصلته رسالة مفادها أنه يمكن أن يقضى رحلة سعيدة لليلة واحدة مع فتاة جميلة. دون أن تعرف زوجته. وله الخيار فى الرفض والبقاء بجوار الزوجة.
لكنه قرر خوض المغامرة. وعند العودة من الرحلة وجد أن زوجته قامت برحلة مماثلة مع شاب.
وفى اعتقادى أن هذه القصة هى الأجمل والأكمل فى المجموعة. سواء من حيث الموضوع الذى يعالج المغامرة خارج إطار الزواج التى يراها الزوج نزهة لكنها بالغة المرارة إذا جاءت من الزوجة، أو من حيث التقنية وإطلاق العنان للخيال الذى صنع سردية متقنة بأدوات غير تقليدية بلغت القمة فى الإمتاع والروعة، ودهشة النهاية الصادمة للزوج المتذاكى وللقارئ.
وعلى ذكر التقنية والشكل يمكن الوقوف على بعض الملاحظات العامة للمجموعة «قلوب ضالة» إجمالا:
– الوصف كان حاضرا بقوة فى قصص المجموعة وكأن الكاتبة تنقل لنا مقاطع تسجيلية، بكاميرا الكلمات لحركات الشخوص والمحيط والأحداث. ورغم جمال هذا الوصف إلا أنه أحيانا يتجاوز قدرة القصة على احتماله.
– اعتمدت الكاتبة على أسلوب واحد فى الحبكة وهو بداية ووسط ونهاية ومعظم النهايات كانت موفقة وذات علامة فى ذهن القارئ.
– أغلب القصص شديدة الواقعية وذات بعد اجتماعى لطبقات المقموعين تذكرنا بعوالم الروائى الكبير خيرى شلبى.
ضمير الغائب «هو» سيطر فى كل قصص المجموعة مع إفساح المجال لضمير «الأنا» أحيانا فى بعض القصص إلى جانب الغائب.
– اللغة هى الفصحى.. وكانت وعاء تعبيريا شيقا، بسيطا وسلسا. تماشت تماما مع حاجة السرد دون بهرجة لفظية أو محسنات متكلفة.
ختاما، المجموعة تلقائة وجميلة فنيا وأدبيا. كجمال وتلقائية القاصة فاطمة وهيدى التى أبدعت وأجادت وأدهشت فى هذه القلوب الضالة.
بقى القول إن فاطمة وهيدى كاتبة وشاعرة مصرية، صدر لها عدد من الأعمال: تقاسيم على وتر الشوق – لا عزاء للحلم – نبضات – ثلوج سوداء – شذرات عتقها الهوى – ما لن تقوله شهرزاد – ورد الغياب – قبل مشرق الحب بنبضة.
إضافة إلى «قلوب ضالة» التى تحدثنا عنها والصادرة عن دار روافد للنشر والتوزيع. فى 141 صفحة من القطع المتوسط.
كما للكاتبة إصدارات أخرى فى مجال أدب الطفل.